الأربعاء، 7 أغسطس 2013

ابو العلاء المعري رهين المحبسين بقلم :الدكتور سميح مسعود

ابو العلاء المعري رهين المحبسين




د. سميح مسعود
السبت 3/8/2013
  • سبق المعري في "رسالة الغفران" دانتي الإيطالي في "الكوميديا الإلهية"، وسبق غوته و"شيطانه"، وسبق ميلتون الشاعر الانجليزي الأعمى في ملحمته " الفردوس المفقود " وسبق الكاتب الانجليزي الشهير فنسون أديسون في قصته "الحياة الأزلية" التي يصف فيها الآخرة بشيء من السخرية والنقد والتندر
  • كتاب اللزوميات ينفرد بمكانة خاصة في مجال الشعر العربي كديوان فلسفي وحيد في اللغة العربية، ويؤكد طه حسين في هذا الجانب على "أن اللزوميات فن جديد في الشعر العربي" وأن أبا العلاء "أحدث فنا في الشعر لم يعرفه الناس من قبل، وهو الشعر الفلسفي".

أقدم متطرفون في سوريا على تحطيم رأس تمثال لأبي العلاء المعري، بحجة أنه كان كافرا  زنديقا وان تمثاله من الأصنام، وتدل هذه الجريمة النكراء على ما تحمله المجموعات التكفيرية من آراء متطرفة ضلالية، تقودهم إلى تصرفات غير مقبولة شكلا ومضمونا ضد المواقع الأثرية والثقافية بتبريرات لا علاقة لها بأصول الدين.
وتقودهم أيضا إلى الاهتمام بمظاهر التدين الشكلي، وتبرير تصرفاتهم بسلسلة ألفاظ رنانة غامضة يغلِّفونها بشعارات من فكرهم المتزمِّت، يبينون فيها أنفسهم على أنهم غيورون على الإسلام والمسلمين، ومن حقهم إعادة ترتيب المكوِّن التراثي  في الدول العربية كما يحلو لهم، وهكذا يحرِّمون بمفاهيمهم الضيقة التماثيل لأنها من الأصنام، علما بأن التماثيل محرمة فقط إذا اتخذت أصناما معبودة، ومباحة إذا أقيمت لتخليد الثقافة والفكر والفن، وحماية الموروث الحضاري بكل معالمه الأثرية والثقافية، وبكل أعلامه من القدماء العظام.
وهنا يطرح التساؤل المشروع عن سبب استهداف تمثال المعري، هل هذا الشاعر العظيم الذي ملأ الدنيا بشعره ونثره كان كافرا زنديقا  كما يدعون؟
للإجابة سوف استعرض في الفقرات اللاحقة بعض جوانب من حياته ومعالم أعماله العظيمة، حيث تلتحم الفلسفة بنسيجه الشعري.
يحظى أبو العلاء المعري بمكانة مرموقة بين صفوة الكبار من الشعراء والأدباء العرب على مر العصور، إنه من أساطينهم، تُجمع المصادر على امتلاكه موهبة استثنائية ونزعة تنويرية عقلانية، فقد قدم العقل طيلة حياته على كل شيء، وحَكّمهُ في كل شيء، وجعله أساس منهجه النقدي المليء بالسخرية والتشاؤم والشك والتساؤلات.
عُرف عنهُ إلمامه بكل ألوان الفلسفات الشرقية، وتعمقه بمعرفة الأديان والمذاهب والفرق الدينية، لامس الفلسفة في نثره وشعره، واعتبرت نتاجاته الشعرية والأدبية بمثابة تأملات فلسفية نادرة في مجال الدين والدنيا والحياة الآخرة.
بحثَ بمنهج فكري عقلاني متنور، استباح به انتقاد كل شيء، وقدّم على أساسه رأيه وفكره بمسائل كثيرة تتعلق بالأدب والشعر والفلسفة والتصوف والتاريخ وأمور الدين والفقه والنحو والصرف، كما ناقش بمنهجه هذا الفلاسفة والشعراء والأدباء والفقهاء، ودافع بكثير من الحماس عن خياراته الفكرية العقلانية بكل تجلياتها، دون إخفاء لشكوكه ومعتقداته ومناهضته لمنتج الموروث التراثي المُكبل للأذهان بقيود الجهل والخرافات.
اختلف عن معاصريه من الأدباء والشعراء بعدم الارتماء تحت أقدام الحُكام، والتكالب على طلب المال، لم يُغره المال، ولا التقرب من الحكام والأمراء، ترك كل شيء، ولزم بيته وهو في ريعان الشباب... دفعه تشاؤمه إلى العزلة والعيش بعيدا عن الناس... اختار لنفسه التقشف والزهد وبساطة العيش، وسمى نفسه رهين المحبسين للزومه بيته وفقدانه بصره... عاش منعزلا بعينين مطفأتين زهاء أربعين عاما في بيت صغير مظلم يخلو من مقومات الحياة الأساسية، لبس فيه أخشن الملابس، وامتنع عن أكل اللحم طوال حياته رفقا منه بالحيوان وحتى لا يساهم في إيلامه.


*التحام الفلسفة بالشعر*


إهتم في عزلته بالتأليف ونظم الشعر وكتابة الرسائل، فملأت شهرته آفاق الأرض العربية، قصده طلاب العلم من أمكنة كثيرة، وراسله عن بعد أهم شعراء وأدباء وعلماء عصره، وأصبحت بسببه قريته المعرة النائية والصغيرة مركزا من أهم مراكز المعرفة العربية.
أشهر آثاره في الشعر "اللزوميات" فيفيض شعره كالسيل في هذا الكتاب بنزعة فلسفية مجبولة بفكر عميق قائم على آرائه حول أسرار الكون وجوهر الوجود والمعتقدات.
تلتحم الفلسفة في كتاب اللزوميات بثنايا قوافيه الشعرية وتتداخل مع مكوناتها، وتظهر فيه أشعاره محملة بمشاهد صور عديدة متزاحمة إنسانية ووجدانية ورمزية، يدفعه العقل فيها إلى الشك والإنكار تارة، وإلى اليقين والإيمان تارة أخرى... يظهر في صور شعرية غير مطمئن إلى بعض المعتقدات، غير وجل من شكه فيها، ويميل في صور أخرى إلى اختيار الإيمان بعقله وعلى طريقته، لا كما يختار عامة الناس من حوله.
يُكرس المعري شعره في كتاب اللزوميات للتعبير عن تأملاته ونظراته الفلسفية كناقد وصاحب مواقف جريئة في الحياة والإنسان والكون،يفيض شعره بروح إنسانية متمردة ضد الظلم والاستبداد والأكاذيب والجهل والخرافات وكل أنواع العبودية، ويرتبط شعره بتتابع مظاهر الحياة والموت وتوالي البدايات والنهايات، كما يتصل بالمعاني الخفية لحياة الانسان على الأرض.
ثمة اجماع على أن كتاب اللزوميات ينفرد بمكانة خاصة في مجال الشعر العربي كديوان فلسفي وحيد في اللغة العربية، ويؤكد طه حسين في هذا الجانب على "أن اللزوميات فن جديد في الشعر العربي" وأن أبا العلاء "أحدث فنا في الشعر لم يعرفه الناس من قبل، وهو الشعر الفلسفي".
ويقول يوحنا قمير في هذا السياق أيضا "اللزوميات.. هي بَعدُ فنٌ جديدٌ في الفكر العربي، فن الشعر الفلسفي.. هي صدى حالات نفسية انتابت صاحبها، فكونت فلسفة اصطبغت بالشعر، وكثرت فيه المراجعات.. إنها قبل كل شيء صدى روح فكرت كثيرا، وشعرت كثيرا وشقيت كثيرا"، وبهذا يكون أبو العلاء شاعرا وفيلسوفا في نفس الوقت، ولهذا استحق بجدارة لقب "شاعر الفلاسفة وفيلسوف الشعراء".





لأبي العلاء المعري كتب أخرى غير اللزوميات في مجال الشعر والنثر، من أهمها كتاب "رسالة الغفران" وهو أجمل ما كتب في النثر، وتنبع أهمية رسالته في كونه سبق جميع كتاب العالم ومفكريه بالكتابة عن الآخرة بطابع روائي، تمكن فيه من وصف الجنة ونعيمها والجحيم بخيال أدبي جامح.




وسبق المعري في عمله هذا دانتي الإيطالي في "الكوميديا الإلهية"، وسبق غوته و"شيطانه"، وسبق ميلتون الشاعر الانجليزي الأعمى في ملحمته " الفردوس المفقود " وسبق الكاتب الانجليزي الشهير فنسون أديسون في قصته "الحياة الأزلية" التي يصف فيها الآخرة بشيء من السخرية والنقد والتندر، وثمة مراجع كثيرة عالمية تشير إلى أن أفكار كل هذه الاعمال قد اقتبست عن "رسالة الغفران"، لأن رسالة المعري عُرفت مبكرا في أوروبا، وصلت إلى الأندلس، وترجمها الطبيب اليهودي ابراهيم الحكيم إلى القشتالية في عام 1264م قبل مولد دانتي بعام واحد، ومنها تم ترجمتها إلى اللاتينية والفرنسية القديمة، وإلى لغات أوروبية أخرى، وجرى تداولها في أوروبا.
وقد بين في هذا الشأن المستشرق الاسباني الشهير ميجيلأسين بلاثيوس: "أن رسالة الغفران للمعري قد كونت أسس الكوميديا الإلهية لدانتي" واعتمد في قوله هذا على دراسة قام بها استغرقت ربع قرن، عرضها في كتاب له على امتداد 405 صفحات من القطع الكبير، نشره بمناسبة تعيينه عضوا في الأكاديمية الملكية الإسبانية في عام 1919، عنوانه "الأخرويات الإسلامية في الكوميديا الإلهية" أجرى فيه مقارنة مركَّزة بين نصوص الكتابين (رسالة الغفران والكوميديا الإلهية) حدد على أساسها دلائل التشابه بينهما، كما بين أيضا دلائل كثيرة تؤكد على تأثر دانتي بأبي العلاء، وأنه قلد رسالته وأخذ عنها، وقد أثار هذا الكتاب ثورة كبرى - على حد تعبير عبد الرحمن بدوي – في مختلف الأوساط العلمية في العالم كله.
والمستشرقون بوجه عام يشتركون في تقدير المعري ومدحه، يضعونه في مقام عالٍ بين شعراء العربية، من حيث أسلوبه ونظرته إلى الحياة والوجود، ويعدونه شاعرا للإنسانية جمعاء سبق زمانه ومكانه بعلمه وتفكيره وآرائه العقلانية.


*طه حسين أكثر من دافع عنه*


على المستوى العربي اعترف أغلبية النقاد القدماء بشاعرية المعري وتفوقه على الكثيرين من مجايليه، وهناك من النقاد من قلل من أهميته واتهمه بالزندقة والإلحاد، لمختلف آرائه الفلسفية التي لا يرتضيها عامة الناس، وقد تصدى لهم بكثير من الحماس مجموعة كبيرة من المفكرين ومن علماء الدين انبروا للدفاع عنه ونفي هذه التهمة، ومن هؤلاء جمال الدين القفطي، وكمال الدين ابن العديم، وقد وضع الأخير كتابا عن المعري بعنوان "الإنصاف والتحري في دفع الظلم والتجني عن أبي العلاء المعري " اتهم فيه حُساده بوضع أقوال ملحدة على لسانه وإخراجه عن الدين.
ولعل أهم دفاع عن المعري قدمه الإمام الذهبي المتوفى عام 1346م، وتتلخص شهادته بقوله "كان المعري في الجملة من أهل الفضل الوافر والأدب الباهر والمعرفة بالنسب وأيام العرب، وله في التوحيد واثبات النبوة، وما يحض على الزهد وإحياء طرق الفتوة والمروءة...".
ويعتبر طه حسين أكثر من دافع عن المعري في الزمن الحديث، كان يشعر أنه ظله على الأرض، يرافقه في كل مكان، ولهذا كرس له رسالته لنيل أول شهادة دكتوراة تُعطى من الجامعة المصرية في عام 1914، وخصه أيضا بكتابين آخرين، وكان يتحدث عنه في مجالسه دون توقف، ويعلن دوما أنه يعيش آلام نفس المعري المتقشفة، يتحسس مرارتها ويتقمصها في بعض اللحظات.
وتعرض في كتاباته عنه إلى الجانب الديني بقوله "أبوالعلاء صادق فيما يقول فهو إنما ألف الكلم يبتغي بها رضا الله ويتقي سخطه، كُتبه نوع من أنواع التقرب إلى الله، ولون من ألوان العبادة له والإمعان في تسبيحه والثناء عليه، ولكن أبا العلاء يعبد الله ويتقرب إليه كما يريد هو ويختار، لا كما يريد الناس ويختارون".
والذي لا شك فيه أن الدول الغربية تعطي لأبي العلاء المعري في الزمن الراهن مكانة عالية بين أعلام العالم الكبار في الأدب والفكر والشعر، وفي المقابل يلاقي الكثير من الجحود من ابناء أمته وأهله مع خفوت المد النهضوي العربي، والمحزن أن يد الغدر الجبانة كما سبق ذكره قد قطعت مؤخرا رأس تمثاله وجرى إسقاطه من قاعدته، وذلك بعد مرور نحو ألف عام على وفاته، وما يقرب من سبعين عاما على نصب تمثاله، ويحمل هذا العمل الإجرامي في ثناياه دلالة ارهابية رمزية تشير إلى إصرار الظلاميين على إغتيال عقول الفكر العربي التنويري.
إن الذين أسقطوا رأس تمثال المعري هم أنفسهم الذين اغتالوا المفكر حسين مروة والمفكر مهدي عامل والمفكر فرج فودة، وحاولوا قتل الأديب الكبير نجيب محفوظ، إنهم من أتباع القوى الظلامية التكفيرية من الذين لا تمت أفكارهم المتخلفة إلى الدين والإنسانية بأية صلة، لا يعرفون سوى القتل والتدمير والتكفير.

* كاتب فلسطيني يقيم في مونتريال – كندا
**ارسلها لي الصديق الاستاذ قصي الزهيري عبر الايميل فشكرا له.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

                                       الصورة من موقع المعرفة والرابط التالي :https://www.marefa.org/ الجمعية الوطنية الفرنسية ..............