عبد المجيد لطفي القاص العراقي الكبير
عبد المجيد لطفي وقصته (في الطريق )
بقلم : الناقد العراقي الكبير الاستاذ ناطق خلوصي
صدرت رواية " في الطريق " للقاص الرائد عبد المجيد لطفي عن مطبعة "المعارف "في بغداد أواخر العام 1958، ضمن مجموعة قصصية تحمل العنوان نفسه ، ضمت ست قصص قصيرة أيضاً ، وكان ثمن النسخة 120 فلساً . جاءت الرواية في سبع وخمسين صفحة من القطع المتوسط ، مع اشارة على غلافها الداخلي أنها قصة طويلة ، وهي أول رواية ينشرها الكاتب وكان " أصداء الزمن " وهو أول كتاب له قد صدر عام 1938. لا يمتد زمن الأحداث سوى لليلة واحدة وصباح النهار الذي يليها ، أما مكانها فينشطر إلى مكانين : فسحة ( تعلوها دكة ترابية )أمام نادٍ ليلي في بغداد ، يلتقي فيها سائقو سيارات عدد من رواد النادي الليلي الذي هو ملتقى الأثرياء وكبار مسؤولي الدولة قبل ثورة 14 تموز. أما المكان الثاني فهوبيت واسع بحجرات مستأجرة . تستهل الرواية بقول ماوتسي تونغ " لكيما نعلّم الناس يجب أن نعبّر عن حياتهم " ، ومن أجل تحقيق ذلك , يلتقط الروائي شخصياته من نموذج لشريحة اجتماعية منتزعة من قاع المجتمع مقابل شخصيات من شريحة تسيّدت المجتمع دون وجه حق ، لكن الرواية لا تقدم وجهاً من أوجه الصراع الطبقي على نحو مباشر ، وإنما على شكل مواجهة غير متكافئة بين ممثلين للشريحتين المذكورتين . تروى الرواية على لسان بطلها سعيد وهو سائق سيارة خاصة لرجل من الشريحة الثانية ويواصل سرد أحداث الرواية بلسانه على امتدادها ، يفتتحها بقوله " منذ اسبوعين وأنا هنا كل ليلة فلا تكاد الساعة تبلغ الحادية عشرة حتى أقفز من السيارة الجديدة التي أقودها فأفتح السيارة لعمي ( يقصد سيده ) محنياً قامتي بتواضع ذليل لينزل ببطء وكبرياء " (ص 4) . أما عن الطرف الثاني فيقول : " فإذا مست قدماه أرض الرصيف ربت على بطنه الكبيرة كأنه يواسيها ويؤملها بأكلة جديدة ثم يلتفت بشموخ فيلقي نظرة رضا وحبور على السيارة الجديدة ذات المكيّفة ، ونظرة أخرى مملوءة بالازدراء والتعالي يلقيها هذه المرة عليّ مؤذناً بدخوله إلى ناديه الليلي " ( الصفحة نفسها ) . لكن الحدث يتحول في اتجاه آخر يكشف عن هم خاص يؤرق سعيد الذي ينطوي اسمه على مفارقة واضحة .لقد كان تعيساً بخلاف ما يوحي به اسمه ولا يكمن سر تعاسته فقط في وضعه المادي المتردي وإنما أيضا في موقف أخلاقي ورّط نفسه فيه. كان يستأجر غرفة مع عمته العجوز في السكن متعدد الحجرات والنزلاء المستأجرين . جارته في الغرفة المجاورة امرأة مقعدة تورطت ابنتها مع رجل تخلى عنها وكانت في حالة وضع ليلة الحدث فتبرع سعيد بأن يمثّل دور المنقذ الشهم " كانت ابنة جاري في المنزل الكبير على وشك أن تضع مولودها الأول وكنت أروض نفسي على قبول الأمر الواقع مصطنعاً شهامة عارية محملاً كبريائي الركوع على قدميه لأعترف بابوة الطفل القادم " ( ص8 ). إن الروائي ينطلق في تعاطفه مع المسحوقين من حسه الانساني وميله فكرياً نحو اليسار ، فيأتي بشخصية السائق الآخر علوان رديفاً لسعيد محمّلاً بالمعاناة ذاتها التي ينوء بعبئها بطل الرواية .لكن هذا القادم بسيارة سيده كان مشحوناً بروح التمرد: يقنع سعيداً غير السعيد بالاحتجاج على سيده الثري مثلما سيفعل هو" فقد لاح هو الآخر تواقاً إلى حريته التي يبيعها مكرهاً في أبواب المواخير العصرية وأندية القمار .... قابضاً على مقود سيارة جديدة يبدلها " عمّه " كل عام " (ص 26 ) ، ويحرضه على التمرد ، فيأخذ منه مفتاح سيارة سيده ويدخل النادي ليرميه مع مفتاح سيارة سيده هو في وجهي الرجلين المخمورين المتخومين بالخسة ، في محاولة للتعبير عن الاحتجاج والرفض ، لكن تلك المحاولة جاءت بعكس ما كانا ينتظرانه منها : " كان الدم ينبثق من وجه علوان ومن أنفه بغزارة ويسيل قطرات متلاحقة على صدره وهو يحاول التملص من بين ستة أذرع قوية لئيمة جائعة للبطش والسيادة ..... وذهب علوان ، أخذوه بقسوة إلى سيارة انطلقت به إلى حيث لا أدري .. بعيداً ألى المجهول " ( ( ص28 ) ، وطرد سعيد من العمل أيضاً .وإذا كانت أحداث هذه الليلة المأساوية قد تلاحقت أمام النادي الليلي فإن أحداث الصباح الذي تلاها وقعت في المنزل القديم الكبير ولم تكن أقل مأساوية من سابقاتها : مات الطفل المولود فيأتي رد فعل سعيد " وملأت الطريق أمامي غمامة سوداء وخنقني غبار كبريتي حاد" ( ص42) وأراد الدخول عنوة إلى غرفة المرأة المقعدة ليواسي ابنتها وسط ممانعة نسوة المنزل الكبير لتختتم الرواية بمشهد مأساوي جاء في أعقاب شجار بين سعيد وبعض سكَنة المنزل الكبير قاده إلى السجن .
عبد المجيد لطفي وقصته (في الطريق )
بقلم : الناقد العراقي الكبير الاستاذ ناطق خلوصي
صدرت رواية " في الطريق " للقاص الرائد عبد المجيد لطفي عن مطبعة "المعارف "في بغداد أواخر العام 1958، ضمن مجموعة قصصية تحمل العنوان نفسه ، ضمت ست قصص قصيرة أيضاً ، وكان ثمن النسخة 120 فلساً . جاءت الرواية في سبع وخمسين صفحة من القطع المتوسط ، مع اشارة على غلافها الداخلي أنها قصة طويلة ، وهي أول رواية ينشرها الكاتب وكان " أصداء الزمن " وهو أول كتاب له قد صدر عام 1938. لا يمتد زمن الأحداث سوى لليلة واحدة وصباح النهار الذي يليها ، أما مكانها فينشطر إلى مكانين : فسحة ( تعلوها دكة ترابية )أمام نادٍ ليلي في بغداد ، يلتقي فيها سائقو سيارات عدد من رواد النادي الليلي الذي هو ملتقى الأثرياء وكبار مسؤولي الدولة قبل ثورة 14 تموز. أما المكان الثاني فهوبيت واسع بحجرات مستأجرة . تستهل الرواية بقول ماوتسي تونغ " لكيما نعلّم الناس يجب أن نعبّر عن حياتهم " ، ومن أجل تحقيق ذلك , يلتقط الروائي شخصياته من نموذج لشريحة اجتماعية منتزعة من قاع المجتمع مقابل شخصيات من شريحة تسيّدت المجتمع دون وجه حق ، لكن الرواية لا تقدم وجهاً من أوجه الصراع الطبقي على نحو مباشر ، وإنما على شكل مواجهة غير متكافئة بين ممثلين للشريحتين المذكورتين . تروى الرواية على لسان بطلها سعيد وهو سائق سيارة خاصة لرجل من الشريحة الثانية ويواصل سرد أحداث الرواية بلسانه على امتدادها ، يفتتحها بقوله " منذ اسبوعين وأنا هنا كل ليلة فلا تكاد الساعة تبلغ الحادية عشرة حتى أقفز من السيارة الجديدة التي أقودها فأفتح السيارة لعمي ( يقصد سيده ) محنياً قامتي بتواضع ذليل لينزل ببطء وكبرياء " (ص 4) . أما عن الطرف الثاني فيقول : " فإذا مست قدماه أرض الرصيف ربت على بطنه الكبيرة كأنه يواسيها ويؤملها بأكلة جديدة ثم يلتفت بشموخ فيلقي نظرة رضا وحبور على السيارة الجديدة ذات المكيّفة ، ونظرة أخرى مملوءة بالازدراء والتعالي يلقيها هذه المرة عليّ مؤذناً بدخوله إلى ناديه الليلي " ( الصفحة نفسها ) . لكن الحدث يتحول في اتجاه آخر يكشف عن هم خاص يؤرق سعيد الذي ينطوي اسمه على مفارقة واضحة .لقد كان تعيساً بخلاف ما يوحي به اسمه ولا يكمن سر تعاسته فقط في وضعه المادي المتردي وإنما أيضا في موقف أخلاقي ورّط نفسه فيه. كان يستأجر غرفة مع عمته العجوز في السكن متعدد الحجرات والنزلاء المستأجرين . جارته في الغرفة المجاورة امرأة مقعدة تورطت ابنتها مع رجل تخلى عنها وكانت في حالة وضع ليلة الحدث فتبرع سعيد بأن يمثّل دور المنقذ الشهم " كانت ابنة جاري في المنزل الكبير على وشك أن تضع مولودها الأول وكنت أروض نفسي على قبول الأمر الواقع مصطنعاً شهامة عارية محملاً كبريائي الركوع على قدميه لأعترف بابوة الطفل القادم " ( ص8 ). إن الروائي ينطلق في تعاطفه مع المسحوقين من حسه الانساني وميله فكرياً نحو اليسار ، فيأتي بشخصية السائق الآخر علوان رديفاً لسعيد محمّلاً بالمعاناة ذاتها التي ينوء بعبئها بطل الرواية .لكن هذا القادم بسيارة سيده كان مشحوناً بروح التمرد: يقنع سعيداً غير السعيد بالاحتجاج على سيده الثري مثلما سيفعل هو" فقد لاح هو الآخر تواقاً إلى حريته التي يبيعها مكرهاً في أبواب المواخير العصرية وأندية القمار .... قابضاً على مقود سيارة جديدة يبدلها " عمّه " كل عام " (ص 26 ) ، ويحرضه على التمرد ، فيأخذ منه مفتاح سيارة سيده ويدخل النادي ليرميه مع مفتاح سيارة سيده هو في وجهي الرجلين المخمورين المتخومين بالخسة ، في محاولة للتعبير عن الاحتجاج والرفض ، لكن تلك المحاولة جاءت بعكس ما كانا ينتظرانه منها : " كان الدم ينبثق من وجه علوان ومن أنفه بغزارة ويسيل قطرات متلاحقة على صدره وهو يحاول التملص من بين ستة أذرع قوية لئيمة جائعة للبطش والسيادة ..... وذهب علوان ، أخذوه بقسوة إلى سيارة انطلقت به إلى حيث لا أدري .. بعيداً ألى المجهول " ( ( ص28 ) ، وطرد سعيد من العمل أيضاً .وإذا كانت أحداث هذه الليلة المأساوية قد تلاحقت أمام النادي الليلي فإن أحداث الصباح الذي تلاها وقعت في المنزل القديم الكبير ولم تكن أقل مأساوية من سابقاتها : مات الطفل المولود فيأتي رد فعل سعيد " وملأت الطريق أمامي غمامة سوداء وخنقني غبار كبريتي حاد" ( ص42) وأراد الدخول عنوة إلى غرفة المرأة المقعدة ليواسي ابنتها وسط ممانعة نسوة المنزل الكبير لتختتم الرواية بمشهد مأساوي جاء في أعقاب شجار بين سعيد وبعض سكَنة المنزل الكبير قاده إلى السجن .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق