بقلم : ا.د. رونين زيدل
استاذ التاريخ الحديث في جامعة حيفا
سبعة شهور مرت
على انتخابات ايار 2018 في العراق ولا توجد في العراق حكومة كاملة. رئيس
الوزراء الدكتور عادل عبدالمهدي يواجه
صعوبات كبيرة واذا ما استمر الوضع هكذا
فمن المتوقع ان يستقيل .
العراق اليوم في مواجهة اطول ازمة سياسية منذ عام 2003. والازمة
تنبع من انشقاق الكتلة الشيعية في البرلمان الى كتلتين ذوات افكار متناقضة وهما : كتلة الصدر والعبادي وكتلة العامري والمالكي.
الكتلة الاولى تدعم مبدأ "العراق للعراقيين" وهي ضد التدخل الايراني في
الشأن , وهذه الكتلة تدعو الى التقارب بين
العراق ومجموعة الدول العربية (السنية ) ، وتعتبر العلاقة مع الولايات المتحدة علاقة
استراتيجية ومهمة.
أما الكتلة الثانية فهي المقربة من ايران وهما تأكيد الهوية الشيعية وتستغل سلطتها على الحشد الشعبي لتخويف
خصومها. هذه الكتلة تماثل استمرار "الدولة العميقة": اجهزة امنية تنفذ
وراء الكواليس لذلك تعود المواطن العراقي
ان يخافها. في مواجهة الخوف الحقيقي من التدهور الى حرب اهلية اخرى.
الكتلتان تبحثان عن "تسوية" لهذا رشح الدكتور عبد المهدي رئيسا للوزراء. ومن المؤكد
ان هذه ال"تسوية" كانت مجرد غطاء ، وعلى ما يبدو لا تقدر ان تساعد في ان تندمل الجروح.
وبالرغم من كل ما يجري فإن الخارطة السياسية العراقية تكشف تغييرا مهما. في
فترات سابقة بعد 2003 كانت السياسة العراقية تندرج وفق خطوط طائفية وقومية : شيعة,سنة, كرد), فكانت
اللعبة السياسية مشتركة لكل هذه المكؤنات, فاليوم المنصة المركزية والوحيدة هي
السياسة الشيعية. بدأ هذا المسار في عام 2009 حينما اسس نوري المالكي كتلته "دولة القانون".
واليوم الانشقاق الشيعي على خلفية مبدأية ـ والعداوات الشخصية تلعب دورا هامشيا فيه. اذا
كان هناك حتى الماضي القريب مخيم سني له هوية سياسية معينة, فهذا قد صمت مطلقا وبات
يقبل الهيمنة الشيعية.
كما أن المكؤن الكردي ضعف كثيرا ويعاني
من انفصال متكرر.
فضلا عن ذلك فإن العراق
لم يتمتع من الاستقلال الكامل. فرئيسا الوزراء الاخران رشحا من او برعاية القوى
المراقبة المختلفة: امريكا,الامم المتحدة , السعودية, تركيا وفي السنوات الاخيرة
بشكل متزايد ايران وممثلها البارز في العراق الجنرال قاسم سليماني. بعد ستقالة
الممثل الامريكي في بغداد بريت مكورك, لا يوجد اليوم اي توازن دولي مضاد لتدخل
السليماني. المعارضة الاكثر جدية للتداخل الايراني هي كره الشارع العراقي لايران. يبدو ان هذه الكراهية خاصة بالعراق
ولا توجد في دول المنطقة الاخرى. وكان حرق القنصلية الايرانية في البصرة في تموز
2018 مصداقا لذلك. لكن هذا الشارع العراقي عاجز في اسماع صوته الى
مراكز اتخاذ القرار داخل المنطقة الخضراء. فمنذ عام 2003 وحتى يومنا هذا ، كل السياسيين العراقيين
البارزين من كوادر المعارضة العراقية المغتربة لسلطة صدام حسين. هولاء عادوا الى
العراق بعد سنوات طويلة في الغربة وبعد الاحتلال الامريكي. يقال انهم "عادوا
على الدبابات الامريكية". بعدهم ما يزال يحفظ بجنسيته الاجنبية .
اقول إن ابرز ممثلي الشارع العراقي هو مقتدى الصدر وكتلته
"سائرون". الصدر بقى في العراق
وعائلته تضررت على ايدي نظام البعث.
مواقفه , بما في ذلك في موضوع ايران, تعكس آراء الشارع. مواقفه غير اصلية
انما تعبر بشكل دقيق الراي العام. رغم ذلك, حتى الصدر لم ينجح في ترشيح عناصره الى مواقع بارزة في
السياسة العراقية, بما في ذلك في الحكومة الراهنة.
اذن هل العراق يتفاعل ؟ الاجابة هي
نعم. المستوى السياسي هو جانب ضيق من جوانب ادارة الدولة. في نهاية عام 2017 تحرر العراق بقواته الذاتية من احتلال ثلث اراضيها على يد تنظيم
داعش. الدولة العراقية تجاوزت اصعب واخطر تحدٍ في تأريخها. اضافة الى ذلك العراق
تجاوز محنة 2003 الصعبة والعنيفة مع تحولاتها الخطيرة.
ومن اهم مفاتيح البرهنة على طريقة تفاعل العراق هو وضع التجزئة
المناطقية بين المكؤنات الرئيسية. محللون غربيون عديدون يذكرون ان العراق دولة
متعددة الاجناس والقوميات والاديان
والمذاهب .وقد استخدموا هذه المعلومة في تقديم "حل" تجزئة
العراق الى دويلات. فالعراق, عكس سورية, متجزأ بشكل واضح على اساس مناطقي وطائفي
وقومي. لكن هذا الانفصال يحفظ مبدئيا من
كل الجوانب. عمليات الاستيطان أو
الاستقرار أو التواجد التي نراها تعد استثنائية
؛ فوحدات الحشد الشعبي في المناطق السنية موجودة هناك لأسباب أمنية ووجودها لا
يعتبر استيطان او تشييع.
العراق دولة تستمر موحدة رغم ما نراه
من انفصال وتجزئة . السبب الرئيسي لذلك هو ان مدينة بغداد تشكل المحور وكل المناطق الاخرى تتمحور حولها وليس لهم اي وجود بدونها. بغداد هي قلب
ودماغ الدولة. اذا يسأل العراقيون الغير مقيمون في بغداد فيكتشف عامة ان ابناء
البصرة ابد ما زاروا الموصل بينما ابناء الموصل زاروا البصرة مرات قليلة في عمرهم. لكنهما يزوران بغداد ولهم علاقات
اقتصادية وعائلية معها.
بغداد ملتقى كل المكونات. كانت خشبة الحرب الاهلية النازفة في
2006-2007. بغداد هي العراق. واليوم بغداد تحولت الى مدينة شيعية. حتى عام 2014 كانت مسألة مركزية او لا
مركزية الدولة ، قضية النقاش الاولى في السياسة العراقية. هذا النقاش شمل كل المكونات بالمجتمع العربي في العراق. نتيجة لذلك ظلت الفدرالية العراقية مشروع غير متطور فكريا
وقانونيا لا يتجاوز حدود اقليم كردستان والعلاقات العربية- الكردية . في الوقت
الحاضر انتهى النقاش بفوز انصار المركزية. هولاء يعتقدون في ضرورة استمرار الدولة
المركزية التي تدار من بغداد وتحديدا من المنطقة الخضراء. كما ان الكتلتان الشيعية
في البرلمان متفقتان على بقاء العراق دولة
مركزية.
حتى الاكراد مضطرون على القبول بالمركزية مع محاولة الحفاظ
على ما تبقى لهم من فدرالية في شمال العراق.
والان وماذا بالنسبة للهوية الوطنية ؟
اذا قدم اجنبي بدون معرفة سابقة الى
العراق اليوم ويرى المظاهرات في البصرة مثلا فيظن ان العراقيين شعب مؤحد لا يوجد
اختلاف فيه. فالأعلام , الرموز الوطنية , الهتافات والشعارات متشابهة ومشتركة في
كل انحاء العراق العربي.
علم عراقي واحد يرفرف
في كل المظاهرات. الكتلتان في البرلمان شركاء في نفس العقيدة الوطنية. العراق في حقبة
الهيمنة الشيعية يبتعد عن القومية والتضامن مع العالم العربي. المضمون العربي يفقد
جاذبيته لدى الفرد والمجتمع. الادباء البارزين يتبنون نسخة جديدة من الهوية الوطنية
تدعو الى اعادة بناء الهوية الوطنية بشكل مختلف تماما عن ما كانت في الماضي. سابقا فرضت الدولة نسخة
شوفينية, متشددة وغير محتوية من الهوية, معتبرة التعددية في العراق نقطة ضعف. هكذا
شكل تصادم بين السلطة والمجتمع وتعرقل بروز هوية وطنية مستقرة .خلافا لذلك, والكتاب والادباء يعملون اليوم على تطوير هوية وطنية واحدة تضم كل
الهويات الفرعية الطائفية الدينية والاثنية. هم يعتبرون التعددية والتنوع مصدر
اعتزاز ومصدر قوة ، وعنصر خلاق. هذه
الرؤية تتداخل ببطيء بإتجاه المسرح
السياسي . على اثر القول المشهور "العملية
كانت ناجحة لكن المريض مات"
فبالنسبة للعراق العملية كانت ناجحة ، والمريض لم يمت .
العراق حاضرا .. هو ما يجب ان يكون من البداية: دولة
الاغلبية الشيعية. كان المسار مترافقا مع الشعور بألام كبيرة لكنه اكتمل .حتى الجانب السني ,
الذي كان المسؤول عن اغلبية المشاكل الامنية, وجد نفسه مضطرا , بعد ان فقد السيطرة
على المخلوق الداعشي الذي صنع, الى القبول به. ممثلي السنة في البرلمان
"محسوبين" على الكتلتين الشيعية. النظام السياسي العراقي اليوم ديمقراطي-برلماني
يضمن سيطرة الاغلبية الشيعية ولذلك الحفاظ عليه مصلحة شيعية بحتة
.Vested Interest رغم التأثير الايراني البارز,
ما عدا اتباع ايران الذين يريدون تبني نموذج الجمهورية الاسلامية السلطوي. الوضع الامني جيد
ومستقر وهذا يسمح للناس الانشغال بمواضيع اخرى مثل جودة السلطة ,الفساد,
المحاصصة والسلطوية
Governability بدل تجزئة السلطة بين المكؤنات مثل ما كان في
الماضي. هذا ايضا يمثل تطور ملفت للنظر . لكن الهوية الوطنية لاتتجسد بالشعور والرموز وخلق الحوار فقط. بل يجب ان تمتحن الهوية في قدرة الأمة ان تفعل
في اوضاع حرجة وعادية. يجب ان تمتحن في الحفاظ على التوازن بين المجتمع والسلطة في
اطار الدولة. هل تسمح السلطة للمجتمع التعبير عن نفسها ؟ هل يسمح المجتمع للسلطة ان
تتسلط وتتحكم ؟
اقول ان المجتمع العراقي يقبل النظام الديمقراطي- البرلماني
لكنه يكره السياسيين. هو يرى ان هولاء
يهتمون بالناخب قبل الانتخابات ، وينغلقون داخل اصوار المنطقة الخضراء-رمز
الانسداد-بعدها.السياسيون البارزون اصحاب (فصائل مسلحة خاصة ) و( اجهزة امنية ) لمحاربة المعارضين.
الخلاصة ان الديمقراطية العراقية ما
تزال تحبو . فالفساد السياسي والمالي
والاداري ، وعدم التكافؤ الاداري يضغطون عليها. كما أن ضعف الدولة المستمر ، وعدم
استقلالها يؤثران على ثقة المواطن بالنظام
السياسي. كما أن استمرار وجود اجهزة الدولة العميقة المخيفة يمنع التقارب بين
المجتمع والسلطة. والعراق يحتاج الى "عهد مدني" بين المواطن والسلطة ، لكي
يحصل على التوازن الحقيقي بين المجتمع
والسلطة ، ومن اجل ترسيخ الأسس
الديمقراطية التي يحتاجها الانسان .
__________________________________
*ننشره لغرض الاطلاع على وجهة نظر اسرائيلية قد لانتفق على كل ما جاء فيها لكن الكاتب متخصص بتاريخ العراق المعاصر وبالشؤون العراقية
__________________________________
*ننشره لغرض الاطلاع على وجهة نظر اسرائيلية قد لانتفق على كل ما جاء فيها لكن الكاتب متخصص بتاريخ العراق المعاصر وبالشؤون العراقية
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق