الثلاثاء، 31 ديسمبر 2013

جامع تلكيف1970




صورة تذكارية تجمع بين الشيخ عبد الوهاب الشماع والمرحوم فخري النومة والاستاذ عبد الرزاق السيد محمود ومعهما الشيخ محمد عبد الوهاب الشماع (الاول من اليمين ) وكان صغيرا في العمر و السيد عمار عبد الرزاق الحاج سعيد وكان صغيرا في العمر وهم يقفون امام جامع تلكيف سنة 1970 جامع تلكيف 1970...........................الصورة من ارشيف الاستاذ علي فخري النومة فشكرا له ..............ابراهيم العلاف




جورج انطونيوس صاحب كتاب "يقظة العرب" والذي يُعد من ابرز الكتب التي درست تاريخ الحركة العربية القومية منذ اواخر القرن 19 .









جورج انطونيوس صاحب كتاب "يقظة العرب" والذي يُعد من ابرز الكتب التي درست تاريخ الحركة العربية القومية منذ اواخر القرن 19 ..وقد الفه بالانكليزية ثم ترُجم الى العربية قبل سنوات طويلة تمتد الى نصف قرن ولد في دير القمر بلبنان سنة 1891 وتوفي القدس سنة 1941 وهو خريج جامعة كمبردج ...صورته وصورة ضريحه ...انا شخصيا معجب بكتابه وهو من الكتب التاريخية الرصينة .....ابراهيم العلاف .





عامر عبد الله والحزب الشيوعي العراقي بقلم : زيد الحلي




                            عامر عبد الله عضو اللجنة المركزية للحزب الشيوعي العراقي 


عامر عبد الله والحزب الشيوعي العراقي

بقلم : الاستاذ  زيد الحلي

قليل من تجلس معهم، ويضيفوا اليك معلومة ثقافية او سياسية او اجتماعية، ومن القلة التي لفتت انتباهي، حين جالستهم، وخرجت بانطباع شبيه بضياء الفجر، هو الصديق العزيز المفكر د. عبد الحسين شعبان .. فهذا الانسان النابه، اتابع احاديثه، لاسيما استذكاراته كالبحر، موجة وراء موجة، وليس مثل البعض، يتحدثون في مواضيع، هي نسخ مكررة .. أشباح وظلال لأصوات الآخرين، والكثير من كلماتهم التي نسمعها او نقرأها، هي سطور مسلوبة الروح والجسد!

وتأكدت من خلال صداقتي ونقاشاتي مع اخي د. شعبان، ان الكاتب لا يُعطى الحرية، بل يأخذها، وهو حين اكتشف قوانين الحرية، ازداد حرية.

نعم، لقد نسيّ، بعضنا (كتابا وقراء) اننا كالحبر والورق .. فلولا سواد الحبر لكان البياض أصم، ولولا بياض الورقة، لكان سواد الحبر .. اعمى، فالحبر والورق، صنوان في الصدق، والصدق صنو الحرية!

اعتدت في جلساتي ولقاءاتي مع ابي ياسر د. شعبان، سواء في اروقة المؤتمرات التي نشترك فيها محليا او خارجياً، او الجلسات الخاصة، ان احفز ذاكرته على استذكار بعض ما يستهويني من محطات سياسية مر بها العراق، لاسيما ان الرجل يتحدث بلغة الأرقام المغمسة بالأسماء، ولا تحتاج كلماته مني إلى خرائط خاصة لفك رموزها أو حل الغازها وتفسير إيماءاتها المدهشة!

وقد يعجب القارئ الكريم، حين اقص عليه، حكاية ما سيطالعه عن رجل، حَمل جسده المنهك بالأوجاع والألم والفقد والغياب على كاهل الحزب الشيوعي العراقي حتى الاستغراب. إنه القيادي الشيوعي البارز عامر عبد الله. ففي جلسة عادية، ضمتني مع د. شعبان حضرها شقيقه صديقي حيدر شعبان في صالة الاستقبال بفندق الميرديان في 15 من الشهر الماضي، وكان في ذهني ان اللقاء لن يطول، لاسيما ان للدكتور في اليوم التالي على لقائنا مشاركة مهمة في المؤتمر الذي يقيمه مركز حمورابي للبحوث والدراسات الاستراتيجية، حول واقع العنف والإرهاب في العراق، وله فيها محاضرة بعنوان (ثقافة اللاعنف: آلة التدمير وآفاق التغيير) لكن، مسار الحديث المتشعب، دار مثل، خيط دخان، دون انذار، ليكون المحور "عامر عبد الله " وانثالت الذاكرة الحبيبة لأبي ياسر لتحلق في فضاء الذكريات.

يقول د. شعبان: تعرفت مباشرة على عامر عبد الله بعد أن أصبح وزيراً بنحو أسبوعين (أبريل/نيسان 1972) وكان قد قام بزيارة إلى براغ، وكنت حينها رئيساً لجمعية الطلبة العراقيين (عندما كنت أحضّر للدكتوراه) ونظّمنا له فرصة لقاء بالطلبة العرب وبعض العاملين في براغ، ويومها حضر ممثلون رسميون عن السفارة العراقية لأول مرّة وكان اللقاء مثيراً حقاً.

كنت في صراع مع نفسي: كيف سأقدم أحد أقطاب اليمين إلى الجمهور، هل سيكون تقديمي بصفته الحزبية أي عضويته في اللجنة المركزية بالحزب الشيوعي العراقي رغم أنه كان خارجها أو أعيد احتياطاً إليها أم بصفته الوزارية (وزيراً للدولة) أم بصفته النضالية (المناضل)، وأخيراً حسمت أمري حين اخترت الصفة الأكثر انطباقاً على عامر عبد الله، وهي صفة المفكر الماركسي، وكنت رغم تحفظاتي المسبقة أشعر ان عامر عبد الله من خلال كل ما قرأت عنه وسمعت حوله، هو مجتهد حتى وإن اختلفت معه، أو بالأحرى اختلفت مع ما أشيع حوله، ولذلك اخترت صفة المفكر، وهو بحق أحد أبرز المفكرين الماركسيين العراقيين والعرب.

واستمر متحدثاً عن صديقه ورفيقه عامر عبد الله، بحزن شفيف، فما انبل القلب الحزين الذي لا يمنعه حزنه من ان ينشد أغنية مع القلوب الفرحة التي تنبض بمحبة التاريخ الصادق. وتحدث عن حالة غريبة في حياة عامر عبد الله، جديرة بالاشارة، وهي: "بعد وصول عامر عبد الله إلى لندن قدّم طلباً للحصول على اللجوء السياسي، وكنت قد كتبت له رسالة باسم المنظمة العربية لحقوق الإنسان، التي كنت رئيسها في لندن، وكان أخي حيدر شعبان هو من ذهب معه الى وزارة الداخلية في منطقة كرويدن، وجاءه الرد من وزارة الداخلية بالموافقة، وأُرخت الرسالة يوم 14 يوليو/تموز، وكان (أبو عبد الله) يتندّر عندما يذكر هذا التاريخ بالقول يريدون أن يذكرونني بهذا اليوم على طريقتهم، ولعلها مفارقة أن تضطر الظروف من هيأ لثورة 14 تموز (يوليو) 1958 أن يتقدم بطلب لجوء إلى الدولة التي فك العراق ارتباطه بها وثار الشعب ضد التبعية لها.

لعل تلك واحدة من مرارات عامر عبد الله التي كنت أدركها وأعرف ما تعني بالنسبة إليه، وبغض النظر عن مواقفه «اللندنية» والمتعلقة بشأن تسفيه فكرة السيادة وتبرير القرارات الدولية المجحفة والمذلّة، لاسيما استمرار الحصار الدولي الجائر والتعويل على العامل الخارجي، فقد تميّز عامر عبد الله على أقرانه بنزعته العروبية، وبمواقفه من القضية الفلسطينية

واستمرت استذكارات شعبان عن صديقه الذي سبقته شهرته، وقبل أن يتعرّف عليه الكثيرون كانوا قد سمعوا عنه أو قرأوا له أو جاءوا على ذكره في إحدى المناسبات، فهو الحاضر دائماً الذي لا يملأ المكان فحسب، بل يفيض عليه، نظراً لما يتركه حضوره من إشكاليات وجدل واختلاف وعدائية «مستترة» أحياناً.

ويقول د. شعبان "لم أجد شخصاً اختلف حوله رفاقه قبل خصومه مثلما هو عامر عبد الله الشيوعي العراقي المخضرم، الذي ملأ الأسماع مثلما شغل أوساطاً واسعة من الشيوعيين وأعدائهم، وهو المثقف الماركسي البارز الذي تعود أصوله إلى مدينة عانة المستلقية على نهر الفرات غرب العراق، وكان قد ولد في العام 1924 لأسرة متدينة ومُعدمة، وهو ما يرويه بتندّر شديد وألم كبير، لاسيما حالة الفقر وسوء التغذية والتراخوما، خصوصاً بعد أن تركهم والده الحاج عبد الله ليقرر الرحيل لجوار قبر الرسول في مكّة".

وفي اثناء حديثه الممتع، اشار د. شعبان الى ان عامر عبد الله لم يسلم من الحسد والغيرة التي شنّها ضده رفاقه أولاً، بل نسجوا حوله حكايات لها أول وليس لها آخر، رغم أن بعضهم كان يتملّق له، لاسيما عندما أصبح وزيراً في العام 1972، ورغم أن مواقفه بحاجة إلى نقد وتقييم موضوعي، بما لها وما عليها، إلاّ أن قصصاً كثيرة بعضها من صنع الخيال رافقت مسيرته كشائعة زواجه من البلغارية وحفل الاستقبال الذي أقامه بهذه المناسبة في بغداد، تلك التي كانت «فاكهة الشتاء» في بعض المجالس، حيث يتم تغذيتها يوماً بيوم بل ساعة بساعة كي لا تنطفئ وهكذا سرت تلك الإشاعة مثل النار في الهشيم.

ولم يكن يمرّ يوم إلاّ وتسمع مثل تلك الدعايات السوداء عن البذخ والحفلات والعبث، تلك التي التقطها الأعداء والخصوم، ليؤلفوا منها قصصاً وحكايا أكثر خبثاً عن علاقات سرية مع أجهزة ومخابرات دولية، مشككين كيف كان عامر عبد الله يستطيع الإفلات من قبضة الأجهزة الأمنية طيلة حياته، في حين كان رفاقه يزجّون بالسجون والمعتقلات لسنوات طويلة، وهو يغادر العراق سرًّا ويعود إليها سرًّا، ويسافر ويلتقي مسؤولين وكأنه يلبس طاقية الإخفاء.

ولعل هناك من نسب إليه إصدار «تعليمات» بقتل حفصة العمري وتعليقها على عمود الكهرباء في الموصل خلال أحداثها المأسوية العام 1959. وهو خبر كان قد شاع عشية قبوله عضوية المجلس التنفيذي للمؤتمر الوطني العراقي في لندن، ممثلاً عن «السنّة»، كما تمّ تداوله في حينها!.

ولأن صديقي د. عبد الحسين شعبان، يدرك ضرورة مغادرتي الفندق لظرف خاص بيّ، قال إنه سيرسل لي ما يكفي شهيتي من ذكريات عن صديقه عامر عبد الله، فودعني على آمل حضوري صباح اليوم التالي للمؤتمر آنف الذكر، ويأتي الغد، لأهاتفه معتذرا لعدم حضوري المؤتمر، وبعد يومين يُشارك طلبة الصحافة "المرحلة الثالثة" بكلية الاعلام بدعوة من استاذهم الدكتور احمد عبد المجيد، في ندوة حوارية كان سعيدا بها .. وبانتهاء الندوة، يغادر مساء الى بيروت بعد خمسة ايام من زيارة لبغداد، ومن هناك يهاتفني ليلا، ليجدني طريح الفراش نتيجة انفلونزا حلت ضيفة ثقيلة عليّ، فيتحدث مع زوجتي، متمنيا الشفاء، واصفاً علاجا طبيعيا كان قد جربه!

وبعد يوم على مهاتفته عائلتي، فتحت بريدي الالكتروني، وانا كسول، فوجدت رسالة من ابي ياسر، فيها من السطور ما يبهج، ويزيح المرض، وفيها تنفيذ وعد للوليمة التي تكفي شهيتي، وتزيد. كانت تتضمن فصلا مهما، من كتاب عن "عامر عبد الله والحركة الشيوعية العراقية"، اظنه سيحدث جدلاً في الاوساط السياسية لاسيما في صفوف وكوادر الحزب الشيوعي العراقي لما فيه من اسرار وخفايا، استطاع د. شعبان الحصول عليها، وتثبيتها بأمانة نادرة.

وحتى لا افسد متعة قراءة الاصدار الجديد، الذي سيرى النور قريبا، اشير الى مقتطفات سريعة، لا تخل في جوهر الكتاب، وكم المعلومات فيه.

كان عامر عبد الله متفوقاً دراسياً ما مكنّه من دخول كلية الملك فيصل العام 1941 في عهد الدكتور محمد فاضل الجمالي وزير المعارف في حينها، وكان مرشحاً في العام 1943 للقبول في جامعة كامبريدج، لكن مشاركته في الإضراب مع مجموعة من زملائه أدّى إلى طردهم وإلغاء سفرهم كما يذكر.

انتسب إلى كلية الحقوق في القاهرة وساكن طلعت الشيباني (الوزير بعد الثورة) وأكمل دراسته بعد أن انتقل في السنة الثانية إلى بغداد، ومارس المحاماة والصحافة لفترة قصيرة ومتقطعة، منذ أواسط الأربعينيات، حتى اضطّر للعمل السري بقرار من الحزب في العام 1952، ويقول بمرارة عن سنوات اختفائه التي دامت بمجموعها 11 عاماً، كانت سنوات حرمان وفقر.

قرّر عامر عبد الله الانتماء إلى الحزب الشيوعي أواخر العام 1949 عقب إعدام أمين عام الحزب الشيوعي فهد (يوسف سلمان) ورفاقه حازم وصارم (حسين محمد الشبيبي، ومحمد زكي بسيم) في 13/14 شباط (فبراير) 1949، بعد جولة أجراها في بعض البلدان العربية، التقى فيها عدداً من الماركسيين والشيوعيين، وواصل رحلته إلى باريس متطلعاً إلى أفق إنساني لأممية ماركسية إنسانية رحبة، لكنه اصطدم هناك بالبيروقراطية كما يقول، لأنه لم يكن بعد قد انتمى إلى الحزب.

لعل الدور القيادي والمؤهلات الريّادية الشخصية لعامر عبد الله جعلته مبرّزاً بين أقرانه ورفاقه أينما عمل وحيثما كان، لدرجة أنه حتى عندما كان يُستبعد أو يُقال من مواقعه القيادية، كان الآخرون يحسبونه القائد الفعلي للحزب الشيوعي ومنظّره، نظراً لما تركه من تأثير فكري وسياسي على مجمل عمل الحزب. صاغ عامر عبد الله لنحو 3 عقود أهم وثائقه النظرية وقد يعود السبب في ذلك أيضاً إلى أنه تجاوز الحقل الحزبي ليشتغل بالفضاء السياسي بعد أن تعرف على عدد من الشخصيات السياسية العراقية.

وكتب عامر عبد الله، قبيل ثورة 14 تموز (يوليو) ببضعة أشهر في جريدة البرافدا، السوفيتية الشهيرة (وهو امتياز لم يسبقه إليه أحد من شيوعيي العراق ولم يلحقه إليه أحد من الشيوعيين العرب إلاّ على نحو محدود) مقالتين باسم خالد محمد، فيهما إشارات تحليلية إلى أن الخيار العنفي هو الغالب، ملمّحاً للتحضير للثورة، لاسيما بعد أن غيّر الحزب توجّهه السلمي الذي تبنّاه في الكونغرس الحزبي الثاني في العام 1956 بعد توحيده، مقدّماً خياراً جديداً وتكتيكات نضالية جديدة.

وقد كانت أهم وثيقة صدرت عن الكونفرنس الثاني للحزب الشيوعي العراقي التقرير الذي كان قد كتبه عامر عبد الله حول «مهماتنا في التحرر الوطني والقومي في ضوء المؤتمر العشرين للحزب الشيوعي السوفيتي»، والذي يتلخّص استنتاجه الأساس بالنضال السلمي الجماهيري، في حين أن سلطات العهد الملكي بقيادة نوري السعيد، كانت قد أغرقت التظاهرات السلمية المناصرة للشقيقة مصر والمندّدة بالعدوان الثلاثي الانكلو- فرنسي – الإسرائيلي، بالدم، وهو الأمر الذي استوجب تغيير تكتيكات الحزب بشأن وجهة النضال وأسلوبه الرئيس، حيث تبنّى الأسلوب العنفي، طالما أن السلطات الرجعية هي التي اختارت هذا الأسلوب، غالقة جميع الأبواب أمام أساليب النضال السلمية، لاسيما بعد قيام حلف بغداد واستخدام أنيابه للتضييق على الحريات وإصدار عدد من القوانين تحت باب مكافحة الأفكار الهدّامة، ومن ثم قمع الانتفاضة الجماهيرية الشعبية السلمية، الأمر الذي اقتضى الاستعداد لكل الطوارئ وحشد كل الإمكانات لمنازلات كبرى.

وتنفيذاً لخط الحزب الجديد، الذي رجّح الخيار العنفي أشرف سلام عادل (حسين أحمد الرضي) الأمين العام للحزب بنفسه على تنظيم الخط العسكري وتنظيم الخلايا للضباط وضباط الصف والجنود، كما أفرد بعض الحلقات لقيادة مجموعات الضباط الأحرار، وأصدر نشرة حزبية موجهة للجنود والضباط تحثهم على الوقوف صفاً واحداً لإنقاذ البلاد وتطهيرها من ربقة المستعمرين وأتباعهم.

يقول د. شعبان: سألتُ عامر عبد الله خلال مطارحتي معه في الثمانينات، إضافة إلى مقابلات لم تنشر بعد، عمّا إذا كان اختيار الأسلوب الكفاحي العنفي قد تمخّض عن مؤتمر أو كونفرنس، علماً بأن الكونفرنس الثاني الذي عقد العام 1956 كان قد أتخذ قراراً بالخيار السلمي، فأجاب؛ كانت الأمور أقلّ تعقيداً والثقة عالية وظروف العمل السري لا تسمح كثيراً بعقد مؤتمر أو اجتماع موسع لأخذ رأي القيادات والكوادر، بل إنني كنت قد كتبت رأياً بهذا الخصوص وعرضته على سلام عادل، فأبدى تأييداً وحماسةً واقترح أن يتم تعميمه، ليصبح هذا الرأي بمثابة رأي الحزب وتوجيهاً للرفاق، وقد سعينا إلى تثقيف كادر الحزب الأساس وملاكاته المهمة بضرورة الاستعداد لكل طارئ جديد، وكانت انتفاضة العام 1956 التي شارك الحزب بقيادتها بروفة جديدة لقياس استعداداتنا، لاسيما الجماهيرية للنزول إلى الشوارع وقطع الطريق على القوى الرجعية فيما إذا تحرك الجيش، وهو ما حصل يوم 14 تموز (يوليو) العام 1958، حيث كانت الكتل البشرية الهائلة، صمام الأمان لانتصار الثورة، وكان الحزب قد أصدر تعميماً داخلياً لكوادره للاستعداد للطوارئ يوم 12 تموز (يوليو) أي قبل يومين من اندلاع الثورة.

ويقول د. شعبان: ترسّخ في أذهان جيلنا منذ أواخر الخمسينيات اسم عامر عبد الله باعتباره رمزاً للاتجاه اليميني المساوم، والأكثر من ذلك شاع اعتقاد مفاده بأنه كان يسرّب أسرار الحزب إلى الزعيم عبد الكريم قاسم، لاسيما وأنه كان يحمل بطاقة خاصة تسمح له بالدخول إلى وزارة الدفاع ساعة يشاء، حيث كان من أشد الداعمين لسلطة قاسم داعياً إلى لبس قفازات الحرير الدبلوماسية عند نقدها، كما أشيع في وقتها، ولذلك ركّزت عليه دعاية القيادة المركزية في هجومها بالقول أن كبيرهم علّمهم السحر، أي «سحر الدبلوماسية».

ويقول عامر عبد الله عن علاقته بعبد الكريم قاسم: «كان مولعاً بالسهر مما دفعني للتعود عليه أيضاً، لاسيما خلال فترات الاختفاء الطويلة، وهكذا كنّا نلتقي ليلاً ونتسامر ونتبادل الأحاديث حتى وجه الصباح (انبلاج الفجر)، خصوصاً في قضايا الاقتصاد والنفط والعلاقات الدولية».

تناقل الكثيرون روايات مفادها أن عامر عبد الله وبعض من رفاقه وقفوا حجر عثرة في طريق الاتجاه اليساري أو «الثوري» الذي كان يعمل على إزاحة قاسم من السلطة، لاسيما بعد محاولة اغتياله الفاشلة التي قام بها حزب البعث العام 1959.

وأتذكّر حواراً كان قد جرى في دمشق بين صالح دكله (سكرتير لجنة الحزب في بغداد) وعامر عبد الله عضو المكتب السياسي (آنذاك)، بشأن خطة السيطرة على بغداد، والتي كان قد خطط لها سلام عادل وجمال الحيدري، حيث أبلغ دكله بتنفيذها (ويبدو أنها كانت بمعزل عن المكتب السياسي أو دون معرفة بعض أعضائه، إضافة إلى بعض أعضاء اللجنة المركزية).

واقتضت «الخطة»: النزول إلى الشارع والسيطرة على المرافق العامة، وهو ما ألمح له صالح دكله في مذكراته، لكن عامر عبد الله أنكر ذلك وكثيراً ما جادل في أصل الرواية، لاسيما في ندوة أقيمت له في النصف الأول من التسعينات في الكوفة كاليري في لندن، في حين أن دكله يقول: «أن عبد الكريم قاسم أرسل عامر عبد الله ليستوضح الأمر ويحول دون تنفيذ الخطة – إن وجدت – وذلك بعد علمه بمحاولة «الانقلاب» والسعي لتسلّم السلطة وجعل الأمر الواقع واقعاً"، وباحتشاد الجماهير في الشوارع الذي استمر حتى ساعات الفجر الأولى، وتحرك بعض القطعات العسكرية واستنفار عدد من الضباط والجنود.

وكان عامر عبد الله يبحث كما يقول صالح دكله عن سلام عادل الذي بقي متوارياً عن الأنظار في عكَد (زقاق) الأكراد، حيث كان يرسل توجيهاته إلى لجنة بغداد من هناك، وعندما سألت عامر عبد الله عن الواقعة تساءل ساخراً: «إذاً لماذا لم يفعلها(الثوريون اليساريون)؟!»، لكن جواب الطرف الآخر كان مُبرراً أيضاً.

يبدو أن ثمة أسباب موضوعية وأخرى ذاتية دفعت سلام عادل إلى التخلي عن خطته «الانقلابية». وكنت قد سمعت عن خطة لم أتوثق منها بعد، قدمتها اللجنة العسكرية تقضي بإنزال تظاهرات حاشدة في باب الشيخ، فيرسل قاسم قوات عسكرية لقمعها، وعندها تتحرك القطعات إلى وزارة الدفاع لإلقاء القبض عليه، وتستولي على الإذاعة لتعلن خبر القضاء على المؤامرة الرجعية (المزعومة)، ويكون الحزب قد ظهر بصفة المدافع عن النظام واستلم السلطة بعد تنحية قاسم، وبصورة سلمية!

وإذا كان خبر نزول الجماهير إلى الشارع صحيحاً، فهل رواية صالح دكله صحيحة أم نفي عامر عبد الله؟ قد يكون سبب نزول جماهير الحزب الشيوعي إلى الشارع وبقائهم فيه إلى مطلع الفجر حيث وجهت إليهم التعليمات بالانسحاب هو لإحراج عبد الكريم قاسم الذي دلت مؤشرات كثيرة على تراجعه، لاسيما بعد أحداث الموصل، وعشية أحداث كركوك العنفية المأساوية التي اتهم قاسم الحزب بارتكابها، في محاولة غزل لأطراف الصراع الأخرى، خصوصاً بعد خطاب كنيسة مار يوسف (لاحقاً).

كما يمكن أن تكون رغبة الاستيلاء على السلطة قد خامرت سلام عادل أو داعبت مخيلته باستذكار نموذج كيرنسكي، لكن الأصح أن الحزب لم يكن لديه أية خطة لذلك، وأن إستراتيجيته حتى بعد أن انتقد نفسه وتراجع لم تبدِ أية ردود فعل كبيرة إزاء هجوم قاسم ضده واستمر شعاره: «كفاح، تضامن، كفاح» وهو شعار عائم ودون أي معنى سياسي. وعندما اندلعت الحرب ضد الشعب الكردي بضرب مناطق البارزانيين في أيلول (سبتمبر) 1961 رفع الحزب شعار «السلم في كردستان» وهو شعار بلا معنى وبلا مضمون، لغياب نقطة واضحة لتوجهاته المستقبلية وبالأخص في تحديد الموقف من حقوق الشعب الكردي.

وأغلب الظن أن نزول الجماهير إلى الشارع في التظاهرة المليونية الشهيرة كان يهدف إلى إبراز قوة الحزب الشيوعي وإظهار عضلاته على أمل الحصول على المزيد من المكاسب، لاسيما بعد ارتياب قاسم من رفع الحزب الشيوعي في 1 أيار (مايو) 1959 شعار المطالبة بالمشاركة في الحكم.

وكان اجتماع اللجنة المركزية لعام 1959 قد خطّأ سياسة الحزب، لاسيما مطالبة عبد الكريم قاسم بإشراك الحزب بالسلطة، ورفع بعض الشعارات المتياسرة، وهو الاتجاه الذي قاده عامر عبد الله وزكي خيري وبهاء الدين نوري ومحمد حسين أبو العيس وآخرون.

طالب عامر عبد الله في الاجتماع الموسع الذي عقد في (أيلول/سبتمبر) 1959 بإجراء النقد الذاتي وإعادة تصحيح العلاقة مع قاسم واستعادة العلاقات الايجابية مع القوى والأحزاب الأخرى، ولم يعترض أحد على ذلك، ثم حرر الوثيقة التي سمّيت بوثيقة «الجلد الذاتي» بالتعاون مع سلام عادل.

ونُسجت قصصاً أخرى حول يمينية عامر عبد الله ، لاسيما بعد تنحيته وإرساله إلى موسكو للدراسة الحزبية العام 1962 ومعه ثابت حبيب العاني الذي كان الأقرب في توجهه إلى عامر عبد الله، وقد تم توصيفه في أحد التقارير الحزبية «بالعبودية الفكرية» لعامر عبد الله، وكذلك أرسل بهاء الدين نوري للدراسة الحزبية في موسكو، في حين عوقب زكي خيري بنفيه إلى ريف الشامية لإعادة تثقيفه وتقويته بعد أن قدّم نقداً ذاتياً أكثر فيه من الجلد الذاتي والإدانة لشخصه، ولعل هذا النقد هو الأبشع في تاريخ النقد الحزبي للنفس في العراق، كما أثرت في كتابي «تحطيم المرايا: الماركسية والاختلاف».

وتكثر المعلومات ، لتسد شهية ملايين المتلهفين الى معرفة اخطر المراحل السياسية في العراق، مثل علاقة عبد الوهاب الشواف وناظم الطبقجلي بالحزب الشيوعي العراقي، واحداث الموصل وكركوك .

* المصدر : http://www.middle-east-online.com/?id=168554






الاثنين، 30 ديسمبر 2013

عبد الحميد العلوجي .. مسيرة عطاء وشهادات بعطر الذاكرة بقلم : أسماء محمد مصطفى

شخصياتعبد الحميد العلوجي .. مسيرة عطاء وشهادات بعطر الذاكرة
ـ أسماء محمد مصطفى
 
خاص بـ "الموروث"
بين رحلته القرائية منذ طفولته ، وبتشجيع من والده ، الى عوالم الإعراب  في "الاجرومية" للشيخ خالد الأزهري وكتب طه حسين ، وإطلاعه على القاموس المنجد وإعجابه بكتابات الجاحظ وأبي حيان التوحيدي ، ووفاته تاركا حلمه باستكمال مشروع كتاب ضخم يحمل عنوان الخزانة القرآنية او موسوعة الدراسات القرآنية ، ثمة محطات كثيرة في حياته ترك عبرها آثارا أدبية  تعتز بها المكتبة العربية .
هو العلوجي عبد الحميد .. الباحث الموسوعي  ، المولود في كرخ بغداد ـ منطقة الجعيفر سنة 1924 . تخرج في كلية الحقوق ، ولم يعمل في حقل اختصاصه الأكاديمي . من مؤسسي مجلتي المورد والتراث الشعبي . بلغت مؤلفاته 41 كتاباً ، وشغل مناصب عدة كان آخرها مديرا عاما للمكتبة الوطنية في ثمانينيات القرن الفائت ومن ثم مديرا عاما لدار الكتب والوثائق بعد دمج المكتبة الوطنية  والمركز الوطني للوثائق معا ، حتى تقاعده في سنة 1993 .
أثرّ عليه الحصار الاقتصادي في التسعينيات سلبا كما أثر على سواه من العراقيين ، فاضطر الى بيع مكتبته الشخصية التي احتوت على أكثر من 17 ألف كتاب ومجلد من خيرة المراجع ، ليسد بثمنها قوته وقوت عائلته . مكتبته تلك احتوت كتبا  نفيسة كما أكد في حوار له ـ سنعرضه لاحقاً في هذا الموضوع ـ  ،  ومنها : كتاب الساق على الساق لأحمد فارس الشدياق الذي طبع في منتصف القرن التاسع عشر - طبعة باريس - ، والكتاب عبارة عن رحلة قام بها المؤلف وزوجته الى أوربا ، والملاحظات التي تراها زوجته يعقب هو عليها وقد عاش الشدياق في زمن السلطان عبد الحميد الثاني .
مكتبته العامرة .. كُتِب عنها :
" أنت لم تشاهد مكتبة العلوجي .. أنت لا تعرف نصف الدنيا " ـ لنا وقفة لاحقة معها في هذا الموضوع .
لقبه العلوجي جاء من عمله في علوة والده عشر سنوات ، فقلبها الى مكتبة ، إذ كان يتسوق الكتب بدلاً عن الحنطة والشعير والدهن ، وأدى ذلك الى خسارة والده رأس المال .
وذات مرة حين كان العامل يزن الحنطة في العلوة ، انشغل العلوجي بقضية إعرابية .
قال إنه من دعاة إلغاء الإعراب مفضلا الاستغناء عنه ببعض القواعد الأساسية .
من  آرائه :  إنّ العلاقة بين التأريخ والاسطورة مثل علاقة التوابل بالأطعمة ، التأريخ اسطورة كبيرة لكنها تدعو الى الثقة والإيمان .
ومن آرائه أيضا : إنّ الحكايات الشعبية انعكاس لطقوس وخوف من الغيبيات والماورائيات ، وإن الحكايات الشعبية  ظلمت المرأة .
امتلك روح النكتة ، وهوى الزراعة وصيد السمك ، وربى القطط ، وصادق عنكبوتا وكان يطعمه ذبابا يصطاده له . 
رحل عن عالمنا سنة 1995، لكنه ترك في ذمة الذاكرة الثقافية سيرته ومؤلفاته التي نعرضها هنا من خلال ماأطلعنا عليه وماقاله وكتبه الآخرون بحقه .

العلوجي في موسوعة أعلام العراق
( باحث موسوعي بغدادي ، مارس التعليم مدة ، وبلغت مؤلفاته 41 كتابا ، خاض معارك جدلية مع الدكتور محسن جمال الدين حول الاستشراق الروسي ، ومعركة مع فؤاد جميل حول كتاب (في بلاد الرافدين) ومعركة مع المجمع العلمي العراقي حول الطب العراقي ، كتب عنه حسين نصار والمستشرق البريطاني بيرسون ، حصل على وسام المؤرخ العربي وشارة جمال الدين الأفغاني وشارة الفارابي وشارة بغداد والكندي ). (1)

مؤلفات العلوجي  
وقبل أن نعرض ماكتبه وقاله الآخرون ، نشير الى عدد من مؤلفات العلوجي التي وجدناها في فهارس دار الكتب والوثائق الوطنية * في بغداد  ومصادر أخرى :
 
حكومات بغداد منذ تأسيسها حتى عصرها الجمهوري ، 1962
الزوج المربوط ، 1964
المواسم الادبية عند العرب ، 1965
مؤلفات ابن الجوزي ، 1965
من تراثنا الشعبي ، 1966
عطر وحبر ، 1967
تأريخ الطب العراقي ، 1967
الشيخ ضاري قاتل الكولونيل لجمن في خان النقطة ، بالاشتراك مع عزيز جاسم الحجية ، 1968
رائد الموسيقى العربية  ، 1969
الهجرة الصهيونية الى فلسطين ، 1969
كتاب الوزارات مخطوط جليل يحسن دراسته ، 1970
أيام في المربد ، 1971
الأصول التأريخية للنفط العراقي ، بالاشتراك مع خضير عباس اللامي ، 1973
النتاج النسوي في العراق ، 1974 ـ  1975
المرشد الى النتاج الموسيقي ، 1975
الفارابي في العراق ، 1975
المتحف البغدادي ، 1975
عقبة بن نافع رجل البيت والقومية ، 1975
المثنى بن حارثة الشيباني ، 1980
القعقاع بن عمرو التميمي ، 1980
المربد مواسم ومعطيات ، 1986
آثار حنين بن إسحاق ، بالاشتراك مع عامر رشيد السامرائي
جمهرة المراجع البغدادية ، فهرست شامل بما كتب عن بغداد منذ تأسيسها حتى الآن ،  بالاشتراك مع كوركيس عواد

شهادات بحق العلوجي
شهادة خص بها المؤرخ إبراهيم العلاف مجلة " الموروث" في لقاء لنا معه
المؤرخ الدكتور إبراهيم العلاف ، الأستاذ المتمرس في جامعة الموصل ، عمل مع العلوجي ضمن مشاريع متخصصة في التأريخ والحضارة ، وقد حدثنا في لقاء لنا معه عن العلوجي إذ كتب شهادته على أوراقنا الخاصة بمجلة " الموروث " الثقافية :
ـ الأستاذ عبد الحميد العلوجي باحث متميز وإداري ناجح وإنسان متواضع . لم أعرف باحثا دؤوبا مدققا محققا مثله .. ولم أرَ كاتبا متنوع الاهتمامات مثله ولم أر إنسانا متواضعا بسيطا مثله .. أنا شخصيا كنت استغرب منه وهو المدير العام للمكتبة الوطنية ودار الكتب أن يكون بهذه البساطة وهذا الاسترسال مع الناس ومع طلبة الدراسات العليا ...شكا لي مرة بأن ورثة الأستاذ الدكتور محمد صديق الجليلي تبرعوا بمكتبته الغنية الى ديوان الرئاسة التي أمرت بإيداعها المكتبة الوطنية فقال إنها من حق الموصل ومن حق مكتباتها ولكن ما العمل ؟
عملت معه ومع عدد من الأساتذة ضمن مشاريع وزارة الثقافة والإعلام في مشاريعها " العراق في التأريخ " وموسوعة "حضارة العراق " 13 مجلدا و" العراق في مواجهة التحديات " ثلاثة مجلدات وكان هو منسق كل هذه الكتب ومحررها . كنا نكتب الفصول ونعطيها للأستاذ العلوجي لنراها تظهر وكأنها بقلم مؤلف واحد . كان يعمل بلا كلل ولا ملل . كان وطنيا عراقيا أصيلا ، والوطنية عنده هو العمل الجاد الدؤوب المخلص الذي يمكث في الأرض .
أمر واحد كنت استغربه فيه هو كثرة التدخين ، ومرة قلت له أن يخفف التدخين فقال "بعد ما يفيد " ..
ومرة قال : إنني علوجي وأنت علاف والعلوجي والعلاف كلاهما يطلقان على من يبيع الحنطة والشعير ....لكن في بغداد يُعرف بالعلوجي أي صاحب العلوة وفي الموصل علاف . رحمك الله صديقي الغالي الأستاذ العلوجي .

العلاف في شهادة سابقة :
العلوجي عالم جليل وباحث متميز وإنسان فاضل يعترف بجهود الآخرين
وسبق للعلاف أن كتب عن العلوجي  شهادة ساردا فيها حدثاً قصد من وراء ذكره التوقف عند أخلاق العلماء والمبدعين ، وقد أرسلها لكاتبة هذا الموضوع قائلا : " لاحظي طريقة رده واعتذاره وأسفه ولومه لنفسه " .
كتب العلاف :

" ارتبطت مع الباحث التراثي الموسوعي الأستاذ عبد الحميد العلوجي ( 1924ـ 1995) بعلاقة صداقة إمتدت الى أكثر من ربع قرن .. وكان رحمه الله يعبر باستمرار عن إعجابه بكتابتي وقد أعرب مرة عن أسفه لانتقال مكتبة الأستاذ الدكتور محمد صديق الجليلي رحمه الله إلى بغداد بعد تبرع ابنه بها وقال لي بالحرف الواحد (إن الموصل هي المكان الطبيعي لهذه المكتبة).
وعبد الحميد العلوجي ، ولد في بغداد سنة 1924، وعمل في التعليم وتخرج في كلية الحقوق ، ولكنه انصرف إلى الصحافة والكتابة ، وكان له دور فاعل في إصدار (مجلة المورد) وفي كل الموسوعات التي أصدرتها وزارة الثقافة والإعلام في الثمانينيات من القرن الفائت ومنها حضارة العراق (13) مجلدا ، والعراق في مواجهة التحديات (3) مجلدات ، والجيش والسلاح في العراق (4) مجلدات ، وألفّ كتبا عديدة لعل من أبرزها كتابه (تأريخ الطب العراقي) وقد إهتم بالتراث الشعبي العراقي وكتب عنه وحرر الكثير من المقالات في هذا الميدان ..
كتب عنه الأستاذ حميد المطبعي في "موسوعة أعلام وعلماء العراق " ، فقال : إنه باحث موسوعي وإن مؤلفاته بلغت 41 كتابا منها :"مؤتمر الموسيقى العربية 1964 " والمد الصهيوني والهجرة المضادة " 1970 و "الأصول التأريخية للنفط العراقي " 1973 ألفه بالاشتراك وهو كتاب وثائقي كتب عنه المستشرق البريطاني بيرسون وقد حصل على وسام المؤرخ العربي من إتحاد المؤرخين العرب  .
في 28 آب 1991 أجرت معه الصحافية هدى جاسم حواراً حول (الحكايات الشعبية العراقية) نشر في جريدة الجمهورية . وقد ذكر في الحوار أن الأب انستاس الكرملي أول من جمع الحكايات الشعبية من أفواه النساء في بغداد سنة 1911، وأن الليدي دراور ليست أول من قام بجمع هذه الحكايات ، واستطرد العلوجي للحديث عن مجهودات من قام بتوثيق هذا اللون من الأدب العراقي ، وللأسف ، فإنه لم يتطرق إلى جهود أستاذنا المؤرخ والكاتب الموصلي المرحوم أحمد علي الصوفي (1897 ـ 1982) م في مجال توثيق عدد كبير من حكايات الموصل الشعبية في كتابه الذي ألفه سنة 1953 حينما كان يعمل مدرسا للتأريخ في متوسطة المثنى في الموصل ، ولم يتح لهذا الكتاب الظهور إلا في سنة 1962 وقد صدر بعنوان : (حكايات الموصل الشعبية) ، وفي هذا الكتاب جمع الصوفي (22) حكاية من الحكايات المتداولة وهي حكايات ذات بعد أخلاقي وتربوي بالدرجة الأولى ، كما إنها تتناول شتى مناحي الحياة ، ومن أبرز هذه الحكايات : حكاية المطلقات السبع ، وحكاية ابن الملك والبنات الثلاث ، وحكاية الخنفساء ، حكاية حديدان مع الدامية ، حكاية السعلوة وابنها مع النساجين ، وتعالج بعض هذه الحكايات مواضيع فساد نظام الحكم ، وسيادة الرشوة ، وعاقبة الظلم والجور ، وخيانة العهد ، ونبذ الكسل ، والدعوة الى العمل ، والتأكيد على الإخلاص والشجاعة.كتبت مقالة في جريدة الجمهورية في عددها الصادر يوم 14 من أيلول 1991 وقلت إن أستاذنا العلوجي أغفل ، كمعظم من أرخ للحكايات الشعبية ، جهود الأستاذ أحمد الصوفي ، وفي عدد الجمهورية الصادر يوم 24 من أيلول 1991 نشر الأستاذ عبد الحميد العلوجي رسالة بعثها الى محرر جريدة الجمهورية قال فيها بالحرف  " قرأ ت  صباح يوم 14 أيلول بين " شؤون الناس" في  جريدتنا "الجمهورية" ، ما يستقيم عقوقا جارحا في رسالة الصديق المؤرخ الدكتور إبراهيم خليل أحمد من جامعة الموصل .. وقد أسعدني أن أجد رسالته تضج بالعتاب على أمثالي ممن أساغوا لأنفسهم العقوق وحجب الريادة في مواجهة الجهد اللامع الذي غرسه المرحوم أحمد علي الصوفي في مضمار الحكايات الشعبية "  . وأضاف العلوجي الى كلامه يقول : ( والدكتور إبراهيم في هذا العتاب معه الحق ، ولايزعجني الاعتراف بجدارة المرحوم الصوفي على ذلكم الصعيد ، وأنا أعجب لقلمي يجتاز الصوفي بصمت على الرغم من الروابط التي كانت تشدني به يوم غادر الموصل الى بغداد ليبثني همومه التراثية ) .
وختم العلوجي رسالته وهو يردد " دفعا لعقوقي غير المقصود سأقدم لمؤرخي الحكاية الشعبية ماأحسبه كفارة قادرة على تشريد الغبن وعقيدتي أن هذه الكفارة تستحق أن تكون المعلومة كما للباحثين في الموروث الشعبي " . وكانت المعلومة كما ألخصها الآن تتضمن خبرا عن كتاب صدر في السويد سنة 1965 ألفته امرأة مستشرقة دانماركية دخلت الإسلام وأطلقت على نفسها (سامية الأزهرية) بعنوان   Arab Rakonti وفي هذا الكتاب حللت بعض الحكايات التي ذكرها الصوفي في كتابه وهي حكاية حديدان وهذا يدل على أن المرحوم الصوفي اقتحم العالم الأرحب ، وقال العلوجي (( إنني بعد ذلك أجدني في غاية القناعة بأنني عاقبت ضميري بما يدين الغفلة التي صرفته عن التغني بريادة أحمد علي الصوفي أسوة بالأب انستاس الكرملي )) .
سردت هذه الواقعة لأذكر بأن أخلاق العلماء والمبدعين ينبغي لها أن تكون هكذا .. فالعلوجي كان بحق عالما جليلاً ، وباحثا متميزا ، وإنسانا فاضلاً يعترف بجهود الآخرين ويعتذر عندما يغفل عن ذكر ذوي الفضل ، وخاصة أولئك الذين خدموا التراث الشعبي العراقي من أجل إحيائه وفي مقدمتهم الأستاذ أحمد علي الصوفي  ." (2)
 
صورة تجمع بين محمد زكي اسماعيل و حسين علي محفوظ و محمود الحاج قاسم وعبد الحميد العلوجي ، انظر الى هامش الموضوع

الحكاية الشعبية كما رآها العلوجي  
وبشأن الحوار الصحافي الذي ذكره الأستاذ الدكتور إبراهيم العلاف في شهادته وأرسل على اثره رسالة الى العلوجي مشيرا الى إغفال الأخير ذكر جهود المؤرخ أحمد الصوفي في توثيق الحكايات الشعبية الموصلية  والى الرد الراقي للعلوجي عليه والذي أشاد به العلاف.**
نقول ، بشأن ذلك الحوار الصحافي ، نضع أمام القارئ بعضا مما ورد فيه ، وقد نشر في الصفحة قبل الأخيرة من جريدة الجمهورية ،  في عددها 7969 ، الصادر في 28 من آب 1991 ، وهو بعنوان : عبد الحميد العلوجي يتحدث عن الحكاية الشعبية ، مَن هو اول من نقل وجمع الحكاية الشعبية العراقية ، وأجرته معه الصحافية هدى جاسم .
وفي مايأتي اقتباسات لبعض مماورد في أجابات عبد الحميد العلوجي  على أسئلة الصحافية هدى جاسم  ، وبتصرف بسيط  منا في الصياغات  لغرض الاختصار ، لا أكثر :
الحكاية الشعبية هي انعكاس لطقوس وخوف من الغيبيات الماورائيات او الميتافزيقيا ، وضعها أجدادنا المجهولون وعن طريقهم انتقلت من جيل الى آخر وبصورة شفاهية ، وكانت تهدف الى سلوك ونهج أخلاقي الغاية منه إبراز أخلاقيات تجنبنا خيانة الصديق او النفاق وأعمال المؤامرات ضد أخواننا ، أو أن مغزاها أخلاقي صادق ... وليس للحكاية الشعبية مؤلفون معروفون وتظهر قيمتها الفلكلورية في مجهولية واصفها وإلا خرجت عن مضمار القلوب .  وقصاصو هذا النوع من الحكايات ، وهم ماكانوا يعرفون بـ "القصخون " ، انقرضوا من المقاهي  ، أما الآن فنجد الحكاية عند العجائز من الجيل الماضي وهذه مع الزمن سوف تنطفئ  إذا لم نفعل فعل الأخوين كرم فقد جمعا كل الحكايات الشعبية في ألمانيا  .. وعزا العلوجي  إهمال الكبار سرد الحكاية الى تعقيدات الحياة والمتطلبات الاقتصادية والتطور التكنولوجي والسينما والتلفاز ، مشيرا الى أن الأفلام المتحركة خدمت الحكاية الشعبية الى حد ما مثل حكاية " علي بابا " .
وعن سؤال هدى جاسم عن سبب رفض الحكاية الشعبية الهزائم وعدم اعترافها بها ضمن سردها حوادث التأريخ ، أجاب العلوجي أن واضعي تلك الحكايات يفعلون ذلك لكي لاتثبط همم الجماهير ولبث روح الإقدام والانتخاء فيهم وبالإتجاه الحياتي الصحيح ، والمعروف حينها وحتى الآن أن الهزيمة تجعل الإنسان يعيش على الإتكالية ولاينتظر سوى الموت وكان يسمى ( التمبل خانة ) .
وأشار العلوجي الى أن العلاقة بين التأريخ والاسطورة مثل علاقة التوابل بالأطعمة ، التأريخ اسطورة كبيرة لكنها تدعو الى الثقة والإيمان .
وتضمن الحوار إشارة العلوجي الى أن أول من إهتم بالحكاية الشعبية العراقية هو الأب انستاس ماري الكرملي  والليدي دروار التي جاءت في فترة الإحتلال الإنكليزي وكتبت عن السعلوة وموضوعات شعبية كثيرة وتقاليد الصابئة في العراق ، ولكن الأب انستاس هو اول من جمع الحكايا الشعبية وكان ذلك سنة 1911 من أفواه النساء المسيحيات في جانب الرصافة . وهناك سيل كبير ممن نقلوا بعض هذه الحكايات من العراقيين ومنهم عزيز الحجية .
وذكر العلوجي أيضا أنه كان يعرف امرأة في الكرخ اسمها رديفة بنت خضير سجل لها طبيب قلب ( الدملوجي ) الكثير من حكاياها على شريط ( كاسيت ) ليكون مادة أساسية تفيده في البحث عن الحكاية الشعبية .
وختم العلوجي حديثه بالقول إن أكثر من ظُلِم في الحكايات الشعبية هي المرأة فقد كانت العجوز منها خصوصا تأخذ دور الكيد والسحر ، أما العلاقات الغرامية فنرى فيها التضحية والصبر على المكارة وتبرز بطولتها في هذا الجانب فقط  . ***
 
انقر على الصورة لتظهر بحجمها الكبير
شهادة :
عبد الحميد العلوجي .. كاتباً وباحثاً ومحققاً
 كانت لنا وقفة عند السيد  جمال عبد المجيد العلوجي الذي يشغل الآن منصب  معاون المدير العام لدار الكتب والوثائق الوطنية ، ليحدثنا عن محطات في حياة خاله عبد الحميد العلوجي . وقد عمل  العلوجي جمال مديرا للعلاقات حين كان العلوجي عبد الحميد المدير العام لدار الكتب والوثائق .
قال العلوجي جمال عن خاله إنه :
 كاتب وباحث موسوعي .. ولد في بغداد في الأول من كانون الثاني سنة 1924 .
انضم الى صفوف الحزب الشيوعي أواخر سنة 1950 حينما كان معلما في إحدى مدارس بغداد . دخل السجن لاشتراكه بنقاشات حادة ومشاجرات مع آخرين لدفاعه عن أفكار الحزب ومفاهيمه . وبعد خروجه من السجن واصل دراسته فتخرج في كلية الحقوق سنة 1962 .
بلغت مؤلفاته أكثر من أربعين كتابا كان أبرزها رائد الموسيقى العربية 1964، وتأريخ الطب العراقي1967 ، والمد الصهيوني بين الهجرة والهجرة المضادة1970، والأصول التأريخية للنفط العراقي1973 .
وهو عضو إتحاد المؤرخين العرب وإتحاد الحقوقيين العرب ، حضر مؤتمر الموسيقى العربية 1964   والمؤتمر الانثولوجي 1967 ومهرجان جمال الدين الأفغاني في كابل 1977. 
مؤسس ورئيس تحرير مجلة المورد التراثية .  خاض معارك جدلية مع الدكتور محسن جمال الدين حول الاستشراق الروسي ، ومعركة مع فؤاد جميل حول كتاب (في بلاد الرافدين) ، ومعركة مع المجمع العلمي العراقي حول الطب العراقي . كتب عنه الدكتور حسين نصار والمستشرق البريطاني بيرسون ..
حاصل على وسام المؤرخ العربي ، وعلى شارة جمال الدين الأفغاني وشارة الفارابي وشارة بغداد والكندي .
اشترك مع آخرين بتأليف العديد من الكتب والمصادر التراثية ، أبرزها المعجم المساعد للأب انستاس الكرملي  ، وجمهرة المراجع البغدادية ، وآثار حنين بن اسحق ، والمدخل الى الفلكلور العراقي ، والشيخ ضاري  قاتل الكولونيل لجمن ، وله أكثر من 300 مقالة في الصحافة العراقية والعربية . عين مديرالمتحف الأزياء ثم مدير التأليف والترجمة والنشر في وزارة الإعلام ورئيس قسم الدراسات الشعبية في المركز الفلكلوري ، واخيرا مديرا عاما لدار الكتب والوثائق حتى تقاعده في العام 1993 لبلوغه السن القانونية .
كان أحد الرواد الذي واكبوا الحركة الفكرية منذ الخمسينيات وله من العطاء الكثير بالرغم من المرض ومتاعب السنين التي شغلته ، فقد ترك اثرا كبيرا كان أمله الذي عاش معه مذ كان معلما إلا أن وفاته حالت دون تحقيق ذلك الأمل ، وهو الشروع في نشر سفر عظيم أسماه (الخزانة القرآنية) يتناول فيه تفسيرا معاصرا للآيات القرآنية ، ولا يزال محفوظا على شكل قصاصات ورقية في مسكنه.
وقبل وفاته في  25 من كانون الاول 1995 بدأ ببيع أهم ركن في حياته كان قد أنشأه منذ صباه وهو مكتبته الشخصية ليواجه بثمنها معاناته الاقتصادية والحياتية في ظل الحصار الاقتصادي ..
وهكذا رحل علم من أعلام العراق كان قد أسهم في إغناء المكتبة العربية بمؤلفاته في الادب والتراث والتأريخ ، فكان خير كاتب وخير باحث.
روح النكتة
في لقائنا معه ، أشار العلوجي  جمال عبد المجيد الى أن خاله عبد الحميد العلوجي كان يتمتع بروح النكتة . ومن المواقف الظريفة التي حدثنا عنها ، إن الباحث الراحل عمل وصديقه الباحث سالم الآلوسي مدة في لجنة تقويم ( تقييم ) المطبوعات في دار الكتب والوثائق لغرض شرائها ، وذات مرة أرسل وزير الثقافة والإعلام شخصا من طرفه ، كان قادما توا من أميركا ومعه مجموعة كبيرة من الكتب ، عرضها للبيع بالدولار ، استقبله العلوجي والآلوسي  وطلبا منه إحضار الكتب لتقويمها ماديا ، فجلبها لهما في أكياس جنفاص ، فقاما بتوزيع الكتب بين ثلاث أقيام وعلى وفق حجم الكتاب ، مجموعة بـ 5 دنانير للكتاب الواحد ، ومجموعة بـ 10 دنانير للكتاب ، ومجموعة بـ 15 دينارا للكتاب الواحد ، فكان هذا التوزيع أشبه بالنكتة من قبلهما ، ولأنهما محددان بميزانية مالية معينة ، وحين عاد صاحب الكتب في اليوم التالي صدمته الأسعار ، فقال لهما : (قابل دا ابيع لكم رقي ) !!
وذات مرة جاء الى المكتبة شخص عرض بيع صورة فوتوغرافية نادرة تمثل الملك غازي في مطار بغداد ، وبمبلغ باهظ جدا ، ففوجئ العلوجي بارتفاع السعر الذي يطلبه صاحب الصورة فقال : ( شنو ؟!  قابل هي صورة الإمام علي حتى ندفع بيها هيج سعر ) ؟ !!

شهادة :
أيّام وليال في ضيافة العلوجي

نعرض أيضا ماكتبه الكاتب الصحافي رباح آل جعفر بحق العلوجي  .. مبتدئاً مقاله بـ :
" أنت لم تشاهد مكتبة العلوجي .. أنت لا تعرف نصف الدنيا " .
 ليكمل قائلا :
" وأشهد أن المؤرخ والباحث والموسوعي الراحل الأستاذ عبد الحميد العلوجي أعطاني مفاتيح كثيرة للمعرفة في السنوات التي عرفته ، وأن أغلب الذخائر والنفائس والفرائد من الكتب ، التي قرأتها في تلك الفترة استعرتها من عنده ، برغم أن ابن الخشاب البغدادي كان إذا استعار من أحد كتاباً وطالبه به ، قال : دخل بين الكتب فلا أقدر على ردّه !.
وما أسهل عليك أن تستعين بالعلوجي بما تريد أن تستعين من أمور الحواشي والمذيّلات في الكتب المطوية وتصانيف الفقهاء والأدباء ، فهو أشبه الى حدّ ما بأبي عمرو بن العلاء الذي نقل عنه ياقوت الحموي ، أن دفاتره كانت ملء بيته إلى السقف .
وكنت كلّما زرت العلوجي في بيته ، قصدت مدخل المكتبة الشهيرة ، وتطلّعت إلى دائرتها الواسعة ، وأدوارها الشاهقة ، وهي تحمل على رفوفها خمسة عشر ألف مجلد ، وأخذت ورقة وقلماً ومضيت أدوّن عناوين بعض الكتب ، وأنا اتجوّل في ممرات العرض ، واتوقف بين حين وآخر أرى ما حولي من تحف فكرية باهرة ورائعة تكاد تذوب من الرقة والجلال في آنٍ معاً ، ثمّ أبقى ساكناً لعدة دقائق كأنني أقف في محراب للنور !.
صحبت الأستاذ العلوجي أياماً ، فوجدته الرائي الذي رأى كل شيء كما جاء في مقدمة ملحمة كلكامش ، واكتشفت أن أروع جوانب شخصيته وأحلاها ، تلك اللغة الساخرة ، التي كانت تتدفق من لسانه عفو الخاطر بلا رقيب ، ومن دون تحفّظ ، وبلا أي تكلّف . 
والعلوجي يعرف كيف يكون الأديب ساخراً ومحترماً ؟! .. وكان هذا الجدّ العلوجي يثير الأسئلة المشاكسة التي لا طاقة للفتيان بها . أذكر أني سألته مرة عن أعزّ مؤلفاته ؟ فكان جوابه : ( مؤلفات ابن الجوزي ) لأنه سدّد عني دين الحدّاد الذي صنع أربعة شبابيك لإحدى غرف بيتي ، و ( الزوج المربوط ) لأنه أبكاني مع الباكين على رجولتهم ، و ( تأريخ الطب العراقي ) لأن المجمع العلمي العراقي عامل هذا الكتاب كما عومل حذاء أبي القاسم الطنبوري في ليلة من ليالي شهرزاد !.
وعرفت العلوجي مؤمناً بالمثل القائل : ( الليل والنهار يعملان فيك فاعمل فيهما ) ، لذلك فإنه كان يعمل ليل نهار والى أقصى حدّ يمكن أن تتحمله الطاقة البشرية . 
كان يستيقظ مبكراً في الساعة الخامسة فجراً ليبدأ يومه بالتدخين قبل كلّ شيء ، ثمّ يذهب الى أوراقه ، التي كتبها قبل خلوده إلى النوم ، وكان من عادته إذا كتب فإنه لا يراجع مسوداته ، يخرج بعدها إلى حديقة المنزل ليدخّن مرة أخرى ، وهو يستنشق الأنسام باردة عذبة ـ كان أبو غسان مفرطاً في التدخين ـ ثم يعود فيجلس الى الكتابة بعيداً عن الضوضاء ، وعند الساعة السابعة والنصف صباحاً يتناول فطوره ، ويتجه الى عمله الرسمي ، وكان هذا البرنامج من الحياة اليومية للعلوجي يتكرّر بتفاصيله كلّ يوم .
والعلوجي ليس من الطراز الذي يهرب من ماضيه او حاضره ، فهو متفق مع الفيلسوف اليوناني انكسارغوس بأنه ( لا يوجد شيء من العدم ) ، وكان يقول يقول : إنه من مواليد اليوم الأول من كانون الثاني سنة 1924 في أسرة لم تجتمع على مذهب فقهي واحد ، ونشأ في محلّة ( الجعيفر ) في جانب الكرخ من بغداد ، ولم يعرف منها سوى مسجدها ومقهاها ، وتعلّم في الخامسة من عمره على يد والده ( الملاّ ) عبد الكريم ، الذي كان يتقن التحدث بالتركية والإنكليزية والفرنسية ، وإن ذاكرته لا تستطيع نسيان أفاضل الذين علّموه في مدرسة الكرخ الابتدائية كالأستاذ ميخائيل عواد ، والفنان حافظ الدروبي ، وعندما أصبح طالباً في المرحلة الثانوية شاء والده برغبة قاهرة ، أن يمارس التجارة في ( علوة ) ومن يومها اشتهر عبد الحميد بلقب ( العلوجي ) .
لقد كانت حياة صعبة تلك التي أعدّتها الأقدار للعلوجي ، وكانت أكثر صعوبة من كل رواية حاول هو أن يرويها بنفسه .. ووسط أهوال الحياة ومتاعبها وجد لنفسه مكاناً حطَّ فيه رحله ، وحصّن موقعه ، فأصدر نحو ( 42 ) كتاباً ضمن ( 34 ) عنواناً ، وكانت تجربته في الحياة أطول بكثير من سنوات حياته التي انتهت سنة 1995، وأعرض بكثير من حياة الآخرين .
روى لي : أنه أيام كان ( علوجياً ) أخذ يبدّد رأس مال العلوة وأرباحها في شراء الكتب ، حتى تنامت في العلوة ـ ومع الأيام ـ مكتبة هائلة ، وكان حريصاً أن يكسو من هذا المال عدداّ من الفقراء والمحتاجين ، وفي البدايات كتب الشعر ثمّ هجره ، وامتدح الشيخ جلال الحنفي بقصيدة عصماء لم يشفعها الحنفي بردّ ، وقال لي : إنه انتخب سنة 1984 عضواً في المجمع العلمي الأميركي ، لكنه رفض قبول هذه العضوية احتجاجاً على مواقف الولايات المتحدة من قضايا العرب .
وأسرّني العلوجي يوماً ، وكان الأجل يدنو منه ، أنه ترك بين يدي ولده ( غسان ) مذكراته ( ذكريات ومطارحات ) بـ ( 600 ) صفحة من الحجم المتوسط ، وأوصاه بعدم نشرها نظراً لما تحوي من صراحة متناهية قد تحرج الآخرين ولعلها تجرحهم ، وأنه كان يتمنى لو وجد من يرعى مشروعه الضخم ( الموسوعة القرآنية ) الذي شرع بكتابته منذ سنة 1952، بدلاً من أن يبقى محفوظاً في صناديق مقفلة ، فلكي تستطيع البذرة أن تكون شجرة باسقة وارفة الظلال ، فإنها تحتاج ليس فقط الى شمس وماء ، وإنما تحتاج أيضاً إلى عناية ورعاية ، وتلك على أي حال أمنية للعلوجي لم تتحقق .
كان يومها قد دخل في العقد السابع من عمره ، وقد بدأت الأمراض تنهش من جسده ، وأخذت صحته بالتدهور ، وإن بقيت روحه خصبة متوهجة ، فقد أصيبت عيناه بنوع من التقوّس ، ودمه بالسكر والضغط ، وكذلك أذنه بثقل في السمع ، ودبّت في أطرافه الرعشة ، وفمه بسقوط الأسنان ، وكان العلوجي يقول عن نفسه : إنه صار يماثل خراب البصرة بعد عدوان الزنج ، وإنه ينتظر رحلته الأبدية الى عالم الغيب ، التي كان يعتقد أنها لن تكون مخيفة أو مفزعة ، لأن ما زرعه العلوجي في دنياه سيجني ثمره مثوىً كريماً تحت سدرة المنتهى في أقصى الجنة . (3)

شهادة :
العلوجي المثقف الحريص على التجديد والتطور والعصرنة
 كتب خالد القشطيني عن  العلوجي ، وقد ذكره  في بعض فقراته  بكنية (أبو غسان) ،  وغسان هو الابن البكر للعلوجي : 
" طالما قيل إن المصريين يكتبون ، واللبنانيين ينشرون ، والعراقيين يقرأون . ولهذا نجد أن الناشرين ينظرون أولاً هل سيقبل العراقيون على الكتاب قبل نشره . يصدق هذا حتى في الوقت الحاضر حين راح العراقيون يواجهون كل هذه المصاعب الاقتصادية والأمنية. لقد ظل حرصهم على المطالعة والتزود بالثقافة والمعلومات شغلهم الشاغل.
كان سوق السراي ، سوق الكتب في بغداد ، من أكثر أسواقها نشاطا. وبالإضافة اليه انتشرت مكتبات شعبية صغيرة في شتى المحلات. اعتاد من لم تسعفه حاله على شراء الكتب ، استئجارها منها بأربعة فلسات . يأخذ المشترك الكتاب الى البيت فيقرأه هو وأولاده وأصحابه قبل أن يعيده للمكتبة ، وكله بأربعة فلسات .
حرص آخرون من المتمكنين على إقامة مكتباتهم الخاصة في بيوتهم . اشتهر منهم الحاج عبد الحميد العلوجي . اكتسب هذا اللقب لأن والده كان يملك علوة. وفيها قضى عبد الحميد شبابه يتعامل مع الحنطة والشعير والطحين ، ونحو ذلك من بضائع العلوات. ولكنه أظهر إهتماما كبيرا بالأدب ودأب على اقتناء الكتب . وبعد أن توفي والده أخذ يكرس وقته للقراءة ولمكتبته الخاصة ، بما أدى الى إفلاس العلوة التي راحت الكتب تبتلع أرباحها.
كان أبو غسان يمثل الشخصية العراقية في نزوعها الى العصرنة والتطور. فجل ما احتوته مكتبته كان من الكتب المترجمة عن الأدب العالمي . كان يقول إن الروايات العربية لا تثير في نفسه غير القرف. بل كان يمقت حتى قراءة نجيب محفوظ . ولم يحز في نفسه شيء كجهله بمعرفة اللغات الأجنبية ليقرأ هذه الكتب بلسانها الأصلي . أخيرا جمع ما في نفسه من شجاعة فانتمى الى المعهد الفرنسي ، لتعلم لغة فكتور هيغو وبلزاك ، بيد أن المحاولة لم تثمر عن شيء فانقطع عن المعهد والألم يحز في نفسه .
كان مثالا للمثقف الحريص على التجديد . حرص على استيعاب الموسيقى الغربية وحضور حفلاتها. يقتطع من طعامه ليشتري بطاقاتها الغالية . يروي صديقه أنور الناصري أنه عندما قدمت فرقة غربية حفلة في قاعة الشعب ، لم يكن بيده ما يشتري به بطاقة وكان فرات الجواهري قد حصل على بطاقة شرف . فأغراه أبو غسان على لعبة "دومنة" يكون فيها الرهان على تلك البطاقة. وكان بارعا فيها ففاز بها وتوجه الى الحفلة . نظر اليه والى حذائه الممزق مفتش التذاكر، فقال له : " لو اشتريت لك قندرة بثمن البطاقة ، مو أحسن لك؟ " . وفي نهاية الحفلة ، تقدمت فتاة لجمع التبرعات فقدمت له وردة . لم يكن في جيبه غير درهم واحد فاعطاه لها ، ولكنها أدركت أن هذا كان كل ما عنده، فأعادته له وقالت ، لا. أنت تحتاج الدرهم أكثر من الوردة !
كان من أبناء ذلك الجيل المؤمن بحرية الفكر والحداثة . ومن سخريات القدر أن عينوه أخيرا رقيبا على المطبوعات . وصله كتاب ثوري لعبد الله القصيمي . وأصبح عليه كرقيب أن يمنعه . ففعل ، ولكنه بادر بعين الوقت الى تقديم استقالته" . (4)

وفاته
توفي سنة 1995 تاركا وراءه آثاره الادبية وظلال ملامحه في قلوب من عرفوه عن قرب .. لاسيما من تواصلوا معه  في أيامه الأخيرة ..

يقول  الكاتب مهدي شاكر العبيدي الذي وصف العلوجي بأنه مجبول على البساطة والتواضع  :

" صادفتُ  العلوجي ضحى يوم قائظٍ في مسرح الرشيد في أخريات أيَّام حياته ، وفي غضون عام  1994م ، فتفرَّسْتُ في ملامحه وأمارات وجهه وتبيَّنَ ليفيها آثار الجهد والكلال ، ما ينبي عن شعوره بالضياع والمتاهة في دنيا الأحياء بعد أنْ نفر منه أكثرهم وبانوا ، وصار مجانِبا للضُرِّ والنفع ، لكن نائيا فيالوقت ذاته ومستريحا عن سماع اللغو والثرثرة والادِّعاء ، والطريف أو المؤسي أنـَّه دأب بعد تقاعده عن مسؤوليَّاته على زيارة رفقائه وأصدقائه في دوائروظائفهم ليُحَادثهم في شؤون الفكر والأدب والثقافة ، مختتما حديثه بإبلاغهم أنـَّه سيرحل قريبا ، بعد أنْ عاش وديعا مسالما منطويا على الخير والحبِّ ، مادايد العون للجميع من معارفه ومعاشره ، وكأنـَّه المعنيُّ بوصية عبد الحميد الكاتب للأدباء بأنْ يتعاونوا ويتعاضدوا وينبذوا التناحُر والشِقاق ، هذا إلى جانب ماألفته من ظرفه وميله للفكاهة التي لا يصطنعها عامدا ، بل هي لصيقة به وسمة من سماته ، ومزيَّة يروض بها خلقه وطبعه على الجلاد والتحمُّل ومغالبةالأوصاب والأنكاد التي تعرض له في ميدان عمله  ".(5)  

وأشار العبيدي الى أن الباحث الأستاذ طلال سالم الحديثي أهدى كتابه : مراجع في الفلولكلور ، الى روح الأستاذ عبد الحميد العلوجي ، وروح صنويه لطفيالخوري وعزيز الحجية ، ضارباً بذلك المثل الأروع في الوفاء والعرفان  ـ وفقا لتعبير العبيدي .

المحطة الأخيرة لهذه الجولة حوار قديم
 توفي العلوجي تاركا وراءه أمنيته باستكمال مشروعه الخزانة القرآنية ، التي أشار اليها مثلما أشار الى أمور أخرى في حوار معه نشرته مجلة ألف باء في ثمانينيات القرن الفائت ، توزع بين خمس صفحات ، أجرته معه  الصحافية وداد الجوراني حين كان مديرا عاما للمكتبة الوطنية ، وهو حوار يكشف عن نواحٍ عديدة من شخصية العلوجي وأفكاره . وقد أعلن فيه العلوجي عن خشيته من أن يترك وراءه ألف " حتى " قاصدا بذلك خشيته من أن يغادر الدنيا قبل أن ينهي مشاريعه ، كما قال الناس عن أحد النحاة " غادر وفي نفسه شيء من حتى " ، وكشف عن شعوره بالغثيان أزاء القصة العربية نظرا لاعتياده قراءة القصص الغربية مايجعله يقارن بينهما ، وقال إن البستة عربية الأصل ، وجاءت من البسطة ، على رأي الفارابي ، وأشار الى قيام صاحب الاسم المستعار السيد شحاته في مجلة المجالس بوصفه بحرامي بغداد !! وكشفه عن دافعه من وراء هذا الإتهام .  
نترك لكم الإطلاع على النص الكامل للحوار ، وكما نُشِر ، ليكون محطتنا الأخيرة التي نختتم بها هذا الموضوع المكرس لشخصية فرضت حضورها خلال حياتها وبعد رحيلها أيضا بما خلفته من ذكرى وآثار :
نص الحوار**** :


انقر على الصور لتظهر بحجمها الكبير
" حديثه ذو شجون .. واستطراداته أشبه ببستان متنوع الشجر والثمر والخضرة ، وهو إذ يذكر الوقائع بذكرها وكأنها صورة الأمس القريب .. بأسلوب يجري به على السجية دون تكلف او مبالغة او شطط يعينه على ذلك ذاكرة متوقدة مختزلة بأحاديث ذات نكهة بغدادية في الثقافة والتراث وملأئ بذكريات 64 عاما لا تتأثر بعوامل الزمن بل تحفظ الأرقام والأسماء والهوامش بكل تفاصيلها الزمانية والمكانية .
بدأت رحلته مع الكتاب وهو مايزال صغيرا على حمله ، فقد قرأ الاجرومية لخالد الأزهري وقرأ لطه حسين وهو في المرحلة الابتدائية ، يوجهه الى ذلك والده الذي يقول عنه :
إن من وجهني الى الكتاب هو أبي ، وأذكر أنني كنت في الاول الابتدائي أدخل غرفته في قيلولة الظهيرة ، فأجده منطرحا على الفراش وهو يطالع القاموس المنجد (الطبعة الاولى لسنة 1912) فيحملني من الأرض ويجلسني الى جانبه مؤشرا لي على صور المنجد وذاكرا مفرداتها العربية يكررها لي ثم يسألني عنها .. وكان والدي يعمل مدير مكتب كتاب لتعليم الأطفال في أحد جوامع بغداد . واستغرقتني القراءة عن سواها ، فكنت اطالع يوميا بحدود (800) صفحة على ضوء القمر، لأن الكهرباء غير موجودة  في البيت ، وكدت - في وقتها - أحفظ كتب الجاحظ على الغيب لأني أحب كتاباته التي سيطرت عليّ وأثرت بي كثيرا كما أثر بي تلميذ مدرسته أبوحيان التوحيدي واستفدت من المطالعة كثيرا، ولذلك أجد أن عقلي الآن أشبه بالكومبيوتر وتتصل بي جهات رسمية عديدة حول موضوع معين فأزودهم بأسماء المصادر وبسرعة . وأكثر من ذلك فإن والدي كان يحرمني من (يوميتي) التي لا تزيد على الفلسين فقط ولكنه سخي كل السخاء معي في شراء الكتب وأقسم أنه في إحدى المرات جاءني بثلاثة حمالين يحملون الكثير من المجلدات وبضمنها معجم الأدباء.

·        هل حفظت القرآن الكريم ؟
ـ قرأت القرآن عشرات المرات ولم أحفظه ، وقرأت تفاسيره الكثيرة لأنها عبارة عن موسوعات او هي وعاء للغة والادب والتأريخ والمعرفة ،  وبعض هذه التفاسير يقع في ثلاثين مجلدا.

·        وهل جوّدت القرآن ؟
ـ أعرف أغلب أسسه وضوابطه التجويدية ولكني لم أجرب تجويده لأن الله لم يزودني بنعمة الصوت الجميل ، والتجويد كما تعلمين يحتاج الى تنغيم وصوت جميل .

·        هذا يعني أنك لم تجرب الغناء أيضا ؟
ـ أغني بصمت لنفسي فقط ، لأني أخاف سخرية أولادي من صوتي .

مكتبة قصصية وروائية عامرة

·        لابد أن لديك مكتبة غنية وأنت القارئ الغني ؟
ـ في مكتبتي (17) ألف كتاب ومجلد من خيرة المراجع وتتضمن كل فروع المعرفة الإنسانية من زراعة وهندسة وكتب التراث والموسوعات العالمية والعربية وحتى كتب الفضاء لها جناح في مكتبتي . إضافة الى كتب النوادر القديمة فأنا من هواة النوادر القديمة.

·        ماهو أنفس كتاب في هذه المكتبة ؟
ـ كتاب الساق على الساق لأحمد فارس الشدياق الذي طبع في منتصف القرن التاسع عشر - طبعة باريس - التي أعتز بها ، والكتاب عبارة عن رحلة قام بها المؤلف وزوجته الى أوربا ، والملاحظات التي تراها زوجته يعقب هو عليها وقد عاش الشدياق في زمن السلطان عبد الحميد الثاني .

·        ماأجمل قصة قرأتها ؟
ـ لدي أوفر مكتبة قصصية روائية ولا اعتقد أن هناك قاصا عراقيا يملك منها ماأملك ولا أقرأ ماقرأت لكني يأخذني الغثيان حين أقرأ قصة عراقية او عربية ، لما تعودته من قراءة القصص العالمية التي تشعرني بضحالة قصصنا وسطحيتها ، ورغم أن نجيب محفوظ قد لطف جو القصة بعض الشيء إلا أني لا أزال على رأيي .

·        وهل تذكر لنا بعض الأسماء تحديدا ؟
ـ أشعر بالحرج أزاء الأسماء ونحن كعراقيين نضيق بالنقد .

·        أنت عراقي أيضا .. وتضيق أيضا بالنقد كما سمعنا عنك ؟
ـ لا أنا أفرح حين يُصحح لي وهم او خطأ ، أرحب بالنقد ولكن ماسمعتموه هو أني نشرت في مجلة الأقلام بحثا عن الكاتب الفرنسي هنري دي موتنرلان صاحب "الموبوءات" والغثيان ، التي بسببها قبل في الاكاديمية ، فأثارت كتابتي حفيظة أحد الشباب فكتب عني في مجلة المجالس الكويتية مقالة تحت عنوان حرامي جديد في بغداد يسرق تراث الآخرين ، شتمني فيها الكاتب السيد شحاته ، وهو اسم مستعار ـ علنا واستهدف سمعتي .

·        وكيف علمت أنه اسم مستعار؟
ـ صادفني أحدهم وهو صديق عزيز يعمل مراسلا لمجلة المجالس الكويتية ، وسألني عما إذا قرأت المقالة ، وحرضني على أن اكتب الرد مبديا استعداده لنشره واشترطت عليه أن يكون الرد قاسيا فقبل . ففعلت وكتبت الرد في حلقتين وعلمت أن شكي في موضعه ، فقد كان هذا الصديق هو نفسه السيد شحاته .. وإنه بهذا الأسلوب قد أثارتي كي أكتب لمجلة المجالس الكويتية ، ولكنه طبعا ليس أسلوبا سليما بالتأكيد !.

·        شاعرك المفضل ؟
ـ الشاعر أيا كانت هويته وأيا كان انتماؤه ، لا يقوى على الاستئثار بإهتمامي ،  ولكن الشعر هازاً ومتألقا هو الذي يملك مشاعري سواء أكان قائله عطارا في الشورجة أم صياد سمك ، ولا عبرة بكثرة الشعراء وحسبي من شعرهم ماقيل في الوطن والحياة والمرأة ، أنا أريد شعرا اتعاطف معه ولا أريد شاعرا يستجدي التصفيق .

علوجي أم مطيري

·        ماذا عن لقب العلوجي .. من أين جاءك ؟
ـ العلوجي لقب مهنوي كالقبانجي والقهوجي وغيرهما ، وهذه الألقاب المثقلة باللاحقة التركية (جي) استغرقت البائعين والصناع في أغلب المهن العراقية طوال الغزو العثماني وعلى مدى أربعة قرون تقريبا.

·        وهل في تراثنا العربي مايفيد معنى العلوجي ؟
ـ نعم فهناك في القرن الثامن الهجرية من اشتهر بلقب (القماح) نسبة الى بيع القمح .

·        يقول أصدقاؤك إنك "مطيري" منحدر من قبيلة مطير ،  فلماذا استغنيت عن هذا النسب العشائري بلقب العلوجي ؟ وهل لهذه الازدواجية نظير في تراثنا العربي ؟
ـ الحق هو إنني مطيري ، وقد أخبرني المرحوم (حلبوص) في ثلاثينيات هذا القرن وكان من المعمرين - إذ عاش مائة وخمسة أعوام - بأن أباه (حسين) كان نجديا مطيريا وأنه هاجر الى العراق قبل منتصف القرن التاسع عشر يوم كان فيصل بن نايف الدويش في قمة مشيخته على قبيلة مطير.. ولكنني رغم هذا النسب القاطع تمسكت بلقب العلوجي احتراما لرغبة فقراء الوشاش والجعيفر فهم قبل كل شيء كانوا زبائني وقد اعتادوا أن يشتروا مني الحنطة والشعير والتمن والدهن ، بعد ذلك أطلقوا عليّ لقب العلوجي .

·        وهل يصح أن تظل علوجيا في العلانية ومطيريا في السر ؟
ـ أنا لست بدعا في هذه الازدواجية ، فتراثنا العربي يخبرنا بأن المؤرخ المصري علي بن الحسين المتوفى سنة 352هـ اكتفى بلقب (الفراء -  بائع الفراء) بينما كان من وجوه قبيلة (عبس) ، وأن الفقيه المفسر محمد بن احمد المتوفى سنة 741هـ استكفى بلقب (الفصاح -  بائع القمح) عن نسبه القرشي ، وأن محمد بن عبدالواحد (احد رواة الحديث النبوي ، المتوفى سنة533هـ اشتهر بلقب (القزاز- بائع القز) في حين أنه كان من بني شيبان ، وأن الفقيه احمد بن محمد المتوفى سنة 415هـ  كان لصيقا بلقب (المحاملي - صانع المحامل التي تحمل الناس في أسفارهم) بينما كان خبياً في انتمائه العشائري ، وأن الفقيه عيسى بن عمر المتوفى سنة711هـ غلب عليه لقب (الخشاب - بائع الخشب) بينما كان مخزوميا ، وأمثال هؤلاء كثيرون والذي يريد الاستزادة ، عليه بالرجوع الى كتاب (اللباب) لابن الأثير.

·        هل ترجو لهذه الازدواجية نهاية ؟
ـ الواقع إنني رغم أصالة نسبي العشائري أعتز وسأبقى معتزا بلقب العلوجي الذي طارت به شهرتي في الأوساط التراثية هنا في وطني وهناك في أرجاء الوطن العربي والعالم ، ولكن أخوتي وأولادي وأحفادي يكرهون هذا اللقب . وقد عاد أكثرهم الى العشيرة عند انتسابهم وهم منذ عشرة أعوام ومايزالون يحاولون أن يقهروني على العودة الى نسبي ، ولكنني أرى من الصعوبة أن أنبذ"العلوجي"بطلاق لا رجعة فيه دونما جريرة وبلا ذنب ،  وحسبهم جميعا أن أكون مطيريا أولاً وعلوجيا ثانياً.

·        وهل ترتاح لاسم جدك "حلبوص" الذي ابتعد كثيرا عن حداثة الأسماء؟
ـ إنني احترم بلا تحفظ هذا الاسم الجليل ، وإن كان الجيل الطالع من عائلتي الكبيرة إناثا وذكورا  يتضايقون منه او يتبرمون به ، وقد غاب عنهم حفظهم الله أن "حلبوص" كلمة بدوية محرفة عن "حلبسٌ ضم الباء"وهي لفظة عربية فصيحة تعني "الشجاع" او "الملازم" للشيء لا يفارقه ، وهذا ثابت في صحاح الجوهري.

طفل مدلل

·        طفولتك المبكرة ، ماذا تذكر عنها ؟
ـ ولادتي كانت في محلة الجعيفر في بغداد / الكرخ سنة 1924 وليس في سنة 1928 كما مسجل في هوية الأحوال المدنية ، لأني عثرت على بيان ولادة بالإنكليزية والعربية موقع من مدير الصحة العام في بغداد الميجر هيكر،  ولو أقمت الآن دعوى لأصبح عمري (64) عاما .   تحدثني والدتي بأني كنت مدللا وأذكر أن عمتي أخذتني معها الى سامراء لزيارة أحد المراقد الدينية - وعمري لا يزيد عن خمس سنوات . وكان في المرقد مكان لذبح القرابين والنذور فتسللت اليه وسرقت بعض قطع اللحم ولففتها بقطعة ورق .. وما أن ذهبت الى عمتي التي كانت جالسة في الإيوان بانتظاري حتى هويت على الأرض ولم استطع النهوض نهائيا . ولحد الآن لا أعرف كيف أعلل هذا. وذهب أبي بي الى عدة اطباء اختصاصيين ، والاختصاص في ذلك الوقت قليل في بغداد ، أغلبهم دجالون من الأوربيين المقيمين ومن اليهود الذين لم يكونوا يؤدون الخدمات التي يحتاجها المريض . وحين استعصى الأمر ، حملتني عمتي على كتفها وعبرت بي من الكرخ الى الرصافة قاصدة الشيخ كَمر ووجدت نفسي أمام شيخ وقور بلحية بيضاء ، ذكرت له عمتي تفاصيل قضيتي فأتى بخيزرانة ونظر الي شزرا وقال لي بصوت عال جدا انهض فأخذني نوع من الرعب فنهضت ومشيت ، ولا أدري كيف وبأي دافع.. ولذلك أجد نفسي الآن أني أقرأ مائة "أعوذ بالله من الشيطان الرجيم" حين أريد صرف ثمن "مكناسة" للمكتبة الوطنية التي أنا مديرها العام .

·        أرى أنك تذكر عمتك .. ولا تذكر والدتك ؟
ـ لأن عمتي كانت متعلقة بي كثيرا تعويضا عن طفليها اللذين غرقا في نهر دجلة حيث كان بيتنا وبيتها .

العلوة التي تحولت الى مكتبة

·        ماذا عن تحصيلك الدراسي ؟
ـ أنا خريج كلية الحقوق ، ولكن لا علاقة لي بالحقوق لا من قريب ولا من بعيد ، وضوابط القبول في وقتها هي التي ألجأتني ومنها المعدل.

·        تخرجت متأخرا عن عمرك ، في سنة 1962.. لماذا ؟
ـ لأني عملت عشر سنوات في علوة أبي ، لذلك لقبت "العلوجي" وكان قصده أن أكسب الرزق الحلال من التجارة لاعتقاده أن الراتب ملوث وحرام ، لذلك احتجزني عشر سنوات في علوة قلبتها الى مكتبة فكنت اتسوق الكتب بدلا من الحنطة والشعير والدهن وأقفل عليها بالمفتاح في غرفة أدعي لوالدي أنها للمخزونات والحاجات اليومية من قدور وصحون فخسر أبي رأس المال .

·        وماذا ربحت أنت ؟
ـ المطالعة فقط .. العامل يزن الحنطة .  وأنا مستغرق في قضية إعرابية أثارها ابن هشام الانصاري، وخاصة تلك المعضلة التي وردت في شاهد نحوي يقول :
سلام الله يامطرا عليها :
وليس عليكم يامطر السلام
الى أن يقول : وإن نكاحها مطر حرام بالرفع او مطرا حرام بالنصب  او مطر حرام بالجر، وغير ذلك من المشاكل الفارغة التي كنا نقضي بها العمر.
أنا اعتقد أنه لا جدوى منها ، أنا من دعاة إلغاء الاعراب فرغم أن الإعراب يؤدي الى تحديد المعنى ، ولكن يستطيع أحدنا أن يستغني عنه ببعض القواعد الأساسية.

·        هل تجرؤ أن تعلن هذا الرأي أمام المجمعيين ؟
ـ لا أجرؤ لأن الرد سيكون عاطفيا وليس علميا ويستحيل على الرأي أن يكون حرا أمام التزمت ، والقدماء كانوا يعجلون ذلك بقسوة كما حدث لطه حسين في الجامع الأزهر حيث ضرب بقسوة بسبب الادب الجاهلي ، وأنا أرى المجمع العلمي العراقي متزمتاً.

·        بعد التخرج ، أين عملت ؟
ـ قبل تخرجي من كلية الحقوق كنت أعمل معلما في مدرسة النجابة الابتدائية في الكرخ – المشاهدة ، ومن طلابي الذين اذكرهم المغني فاضل عواد . ثم نقلت من التعليم الى وزارة الإرشاد - لأن الوزير في وقتها - كان يتابع مقالاتي التي أنشرها عن التراث وعن "السعلوة" وغيرها من المواضيع التراثية التي أتهمنا بسببها بأن لنا علاقات مع الاستعمار وأننا نروج للخرافات والدجل ، وأن من يتعامل مع التراث له علاقة بالاستعمار . وعملت في فترة ما سكرتير تحرير مجلة الأقلام وتبنينا أنا وزملائي إبراهيم داقوقي ولطفي الخولي مشروعا على نطاق أهلي فأصدرنا مجلة"التراث الشعبي" وكنت مدير تحريرها ونوزعها بواسطة الأصدقاء ، إلا أن مشروعنا خسر ماديا فعرض علينا وزير الثقافة والفنون أن تكون المجلة رسمية تابعة للوزارة، فوجدنا في ذلك بارقة ضوء أخضر خاصة وإننا كنا مدينين حتى ببدل الإيجار الذي تعهد لنا الوزير تسديده ، وبقيت المجلة تصدر حتى الآن علما إننا أصدرنا مجلدين منها.

المغامرة الاولى

·        هل ارتبطت فترة شبابك بمغامرات عاطفية ؟
ـ مغامرة واحدة كانت الأولى والأخيرة في حياتي ، حينها كنت مراهقا وقد أعجبتني فتاة تسكن في محلتنا ، فكتبت لها رسالة رقيقة وبعثتها بيد صديقي ، واختبأت في مكان قريب اراقب ملامح وجهها التي تغيرت ، ثم ذهبت الى البيت، وعند العصر طرقت علينا الباب مهددة إياي بأنها ستعطي الرسالة الى والدها الذي كان متنفذا ، أخذني الخوف من هذه الورطة ، فالتجأت الى  القوة السحرية في كتاب اسمه "شمس المعارف الكبرى" ووجدت فيه حرزا قرأته على نهر دجلة وقت الغروب مع بعض البخور التي ابتعتها من عطار المحلة ، وعند الليل جاءت الفتاة وسلمت الرسالة لي .. فأقسمتُ أن لا أكرر ذلك أبدا.

·        وذكرياتك في مجلة المورد ؟
ـ عملت لمدة 12 سنة في مجلة المورد . وكنت لا ابتئس ولا اتألم عندما اعتذر عن نشر بحث لأحد الأساتذة ولكني ألجأ الى أسلوب الضيافة فحين يأتيني أدعوه الى شرب القهوة او الشاي واحادثه وكأننا في مجلس الفاتحة.

ذكريات

·        ذكرياتك عن فترة الاحتلال البريطاني للعراق ؟
ـ في أعقاب الحرب العالمية الثانية بعد أن انهارت حركة رشيد عالي الكيلاني اثر معركة "سن الذبان" قرب الحبانية انتشرت معسكرات الإنكليز في الصالحية . كنا وقتها طلابا في المتوسطة ، وكانت سينما الحمراء الشتوي جديدة في بغداد ، والمجندون الإنكليز يتعمدون ارتيادها لغرض دراسة الأفلام العربية .. حدث أن ذهبت لمشاهدة أحد الأفلام مع صديقي رحمه الله شاكر خضر الذي كان يحسن اللغة الإنكليزية والى جانبنا جلس ضابطان انكليزيان انتبه أحدهما وهو طبيب عسكري الى سبحة في يدي من الكهرب التجاري كنت أسبح بها بتقسيم الخرز بشكل منتظم ، فسأل الضابط ما فائدة هذه السبحة فأجابه صديقي عني بأنها تقضي على شرب السكائر  فعرض علي أن أبيعها له فقلت سأقدمها هدية لك ، فعجب لكرمي وأعلمني عن عنوانهم في فندق "زيا" .. وأصر على إرجاع الفضل .. وعندما ذهبنا اليهم وجدنا أنهم قد هيأوا لنا زنبيلا بالحلوى والسكائر واللبان . وقبل تسليمه لنا سألوني عن السبحة السوداء مافائدتها فاختلقت لهم حكايات  أخر وقلت إنها تتغلب على النرجيلة ولم يكونوا يعرفونها فرسمت النرجيلة لهم ... وشكروني على ماأسديناه من فضل لهم .
ماأذكر أيضا عن تلك الفترة هو إن الاستعمار قد سلط علينا المجندات البولونيات بلباسهن الخاكي وكن ينتمين الى حركة بولونيا الحرة ضد النازية ومقرها لندن... أذكر أنه كانت هناك في الصالحية ساقية انقطع عنها الماء وكان الطين طريا فيها وأنا جالس قربها اطالع كتاب وفيات الأعيان لابن خلكان فباغتتني إحدى المجندات البولونيات وهي سكرى وأصرت على عناقي ، ولم استطع التخلص منها فوقعنا في طين الساقية معاً .. والأمر من ذلك أن كتاب ابن خلكان وقع أيضا ولم أدركه ، ولايزال الطين عليه لحد الآن . 
أما المجندون الهنود الذين رافقوا  الاحتلال البريطاني والذين أوكلت اليهم حماية المنشآت واغلب الدوائر الرسمية فقد كان الإنكليز يتعمدون أن يبعثوا السيخ والكوركة الى الكرخ ولايبعثون الذين يتكلمون الأوردية (وهم مسلمون ) كي لا يتعاطفوا معنا ضدهم ، لذلك كنا نشكل مجاميع منا نحن المراهقون ونختبئ لهم قرب أماكن تواجدهم ونشبعهم ضربا.

مشاريع العمر

·        أكثر من مرة .. نسمع أن العلوجي أحيل على المعاش كي يتفرغ لمشاريع العمر هذه ؟
ـ أول هذه المشاريع هو كتاب موسوعة الدراسات القرآنية ، وقد بدأت به سنة 1952 واواصل العمل فيه حتى الآن ليلا ونهارا ، ولولا انشغالي به لكان لي الآن مؤلفات تسد مكتبة بكاملها . وتناولت في هذا الكتاب جميع الدراسات التي قامت حول القرآن الكريم من ناسخ ومنسوخ إضافة الى القراءات الاصلية ، بدءا بالقراءة الأولى التي هي قراءة النبي (ص) ثم تعددت القراءات في الكوفة والبصرة ودمشق ، وتناولت أيضا المترجمات القرآنية الى لغات العالم ، وإتهام القرآن بالتحريف والردود عليها واستطعت أن أعثر على شواهد بسور كاملة مصنوعة موضوعة مثل سورة الديك وسورة الدجاجة حصلت عليها من شمال افريقيا ومن الهند وناقشتها بلاغيا ، وقد لعبت الشعوبية دورا في هذا الصدد.
أخذت أحكام القرآن ، إعرابه ، وكل علومه وأعطي نبذة تأريخية وفنية عن كل علم بالتفصيل ، ثم أذكر الآثار المخطوطة حوله ومواطن وجودها في خزائن العالم إضافة الى المطبوعات القرآنية مع إشارة للمفقود منها مع ذكر من أشار اليها.

·        إنه عمل كبير ومجهد حقا...
ـ نعم إنه عمل مذهل لا نستطيع أن تنهض به الدول الإسلامية مجتمعة ، إلا أنني مجنون .. لأن هذا العمل يعتمد كل لغات العالم حتى السنسكريتية . واعتقد أنه سيكون جواز سفر لي  أدخل به الى الجنة ، رغم أني حاج لبيت الله الحرام وأرحم الفقراء إلا أنني لا أصوم مثلا ، لضرورات صحية ، وآمل أن يكون هذا العمل مبررا للرحمة وللتخفيف من ظلمة القبر وزبانية جهنم .

·        إذا كان المشروع الأول على هذه الشاكلة ، فمتى ستتفرغ للمشروع الثاني ؟
ـ من أين آتي بالتفرغ كي أنجز هذين المشروعين الكبيرين بنفسي لو استثمر فيهما طاقتي قبل أن يقضي العمر ، أنا لا أفكر بالموت ولست خائفا منه إلا أنني لا أريد أن أموت كما يقال عن أحد النحاة .. " مات وفي نفسه شيء من "حتى" .. أنا سأترك ورائي ألف حتى .

·        منذ متى بدأت بالمشروع الثاني ؟
ـ إنه متزامن مع المشروع الأول فمن خلال مطالعتي لمواد المشروع الأول كنت أسجل الملاحظات التي تمر بي فيما يخص رحلة الكلمة في التأريخ ولم اهتدِ لعنوان معين له لحد الآن وهو يتعلق بحرية الفكر في التأريخ شرقا وغربا منذ أقدم الحضارات الى يومنا هذا، وجمعت فيه عن كل الأشخاص الذين تسببت كلمتهم في مقتلهم طبقا للمثل القائل،"مقتل الرجل بين فكيه".. من وضع كلمة واحدة فقط وأدت الى قتله ، او بيتا من الشعر قتل صاحبه .. او كتابا ألفه وحكم عليه بالإعدام بسببه .. بالحرق مثلاً  كما حدث في القرون الوسطى حين حرقوا الفلاسفة .  هذا الكتاب سيكون أعجوبة وأنا واثق أنه سيقرأ من الغلاف الى الغلاف.. ولكن أعود فأقول أين التفرغ !!

·        وكيف حصلت على كل هذه المعلومات ؟
ـ أنا ألح كثيرا ، ولدي أصدقاء كثيرون في كل مكان من العالم وحصلت على الوثائق مما لا يقف عليها القارئ العربي الآن وفي المستقبل ، حتى محاضر الفاتيكان حصلت عليها ، سيل من الشواهد من الشرق ومن الغرب : مدام بوفاري ومحاكمة مؤلفها فلوبير، الحلاج ومحاكمته.

·        هل لك أن تذكرنا لنا شاهدا معينا ؟
ـ أذكر محاكمة الفيلسوف اليوناني العظيم سقراط مثلا .. فالذين حاكموه هم السماكون وأصحاب المهن ممن لا علاقة لهم بالقانون ، وحكموا عليه أن يشرب السم ، حتى إن زوجته حين ذهبت تزوره في السجن قبل أن يتجرع السم بكته فقال لها: لماذا تبكين ؟ قالت : لأنك ستذهب مظلوما فقال لها ، وهل تريدينني أن أذهب ظالما ؟!

·        وما هي أطرف حادثة من هذا القبيل ؟
ـ ماحدث للسهروردي حين كان يركض في شوارع بغداد والدنيا تمطر ، فسألوه الى أين ؟ فقال إني هارب من رحمة الله (ويقصد المطر) فأكل ماأكل جزاء ماقال لأنه لا يعقل أن يكون الهرب من المطر الذي هو رحمه للناس .

·        وهل حوكم ؟
ـ كلا ، ذهب ضحية الغوغاء .

·        لم لا تستعين (بسكرتير او سكرتيرة) تساعدك في عملك الواسع هذا ؟
ـ والله قد جربت ولكن المثل يقول (ماحك جلدك مثل ظفرك) ، أنا مشهور بسلامة عملي وبالدقة المتناهية ولا استطيع أن اعتمد على أحد إلا إذا كان من وزني .  المفكر الأمريكي صاحب كتاب قصة الحضارة لديه سكرتيرة لكنها بدرجة (بروفسور) .

·        ليكن أحد أولادك مثلا ؟
ـ أنا في وادٍ ، وأولادي في وادٍ آخر . إحدى البنات اختارت الطب ، والأخرى اختارت الزراعة والثالثة مشغولة بالترجمة بينما اختار ولدي الوحيد أن يكون نحاتا  ورساما من الطراز الأول .

·        والزوجة ؟
ـ زوجتي تحرم علي أن أدخل أحدا غريبا الى الدار ، وخاصة الجنس اللطيف ، وأنا أيضا حريص على أن لا أخدش صفو حياتنا الزوجية .

·        هل تراها جميلة ؟
ـ كانت جميلة ، ولكن العمر لم يدعها جميلة ولا أنا جميل إلا أنني وبتأثير منها وبولعها بالأحلام وبتفسير الأحلام أصبحت لدي مكتبة كاملة لكتب الأحلام تشمل حتى النوادر والمخطوطات ،  ولذلك كان في نيتي تأليف موسوعة شاملة لكل الأحلام لأن القدماء كابن سيرين وابن شاهين الظاهري والشيخ عبدالغني النابلسي كانوا من مفسري التعبير بحدود المفردات الموجودة في زمانهم ، وبرجوعي الى فرويد النمساوي وجدت أنه أضاف المفردات الحديثة كالمظلة الشمسية والسيارة والقطار مما لم يكن موجودا في زمانهم ، ورحت الى البابليين والإغريق القدماء فصار لدي من المعلومات ما لا نظير له ولكن .. أين التفرغ ؟

·        هل اكتشفت شيئا جديدا في مجال الأحلام ؟
ـ اعتقد أن النظرة العلمية في تفسير الأحلام قد سبقت فرويد عند ابن شاهين الظاهري أحد العلماء السوريين في عهد المماليك ، ومقدمته كانت موضوعية جدا وهو القائل : مانؤوله في مجتمع قد لا يصلح تأويله في مجتمع آخر ، وهذا يعني أن القضية الأخلاقية نسبية عنده .

·        هل تحب السفر ؟
ـ أحب السفر على أن لا أكون لوحدي لأنني أشعر كالسجين هناك .. زرت كثيرا من المدن مثل افغانستان ولندن والإتحاد السوفيتي ،  ومن المفارقات التي حدثت أني رأيت في مدينة بخارى في جمهورية اوزبكستان السوفيتية ، أن أهل بخارى يشبهون أهل بغداد كثيرا في ملابسهم وعاداتهم ونومهم فوق السطوح في الصيف وقمريات العنب عندهم ورأيت هناك قبر محمد بن اسماعيل البخاري صاحب كتاب الصحاح وقرأت الفاتحة على روحه ووجدت أن 25% من سكان مدينة بخارى وهم من اليهود الذين يتعمدون تشويه الفكر والحضارة الإسلاميتين ، فنصبت نفسي واعظا في مقاهي المدينة أصحح الأوهام التي يدسونها ، وقد طال مكوثي هناك أربعة اشهر ونصف.

·        أي البلدان ارتحت له أكثر من غيره ؟
ـ كلها ارتاح لها ، فإذا كانت أوربية فعلاقاتي مع المستشرقين ممن يتكلمون العربية ، فنتبادل المعلومات حول المخطوطات والفهرسة ، وأزودهم بأسماء المصادر وأذكر أني نفعت المستشرقين في أحد الأكاديميات حين اكتشفت لهم مخطوطا ناقصا في أوله ومن آخره فأوجدت لهم النقص واعتبروا ذلك فتحا ثقافيا بعد أن بعثوا برقية الى ليينغراد وتبين أن ماقلته مطابق عندهم ونشروا ذلك في جريدة أزفستيا السوفيتية ، ولا أزال احتفظ بتلك الجريدة . والشيء  الطريف الذي لاحظته عندما أوفدتني الوزارة الى افغانستان لاشارك في احتفالاتهم العالمية بذكرى جمال الدين الأفغاني ، وكنت مكلفا بإلقاء محاضرة عن حياة الأفغاني فترة وجوده في بغداد ، وترجمت المحاضرة الى البشتو (والبشتو خليط من الفارسية والتركية والهندية والأوردية والعربية) وكان يمثل إيران في هذا المهرجان سفيرها في كابل واسمه تقي زاده ، يحسن اللغة العربية ، وكان بابياً (من المذهب البابي) فناقشني وهاجم جمال الدين الأفغاني حول قضية تأريخية تتعلق بتأريخ ناصر الدين شاه الإيراني .. ولكن أيدني كل الحاضرين وصفقوا لي وانتخبوني رئيسا للمهرجان أدير كل الجلسات ...

·        ماعلاقتك بالسياسة ؟
ـ بصراحة أنا لا أحب السياسة ، ولكن مادام التراث هو الركيزة القومية المهمة ، وأنا من أوائل الذين خدموا التراث فبهذا أكون من أوائل السياسيين .

·        كم عدد مؤلفاتك ؟
ـ أنا منتج ، ولم يقتصر إنتاجي على موضوع معين إلا أن جميع مؤلفاتي على أهميتها موجهة لقطاع معين من القراء والباحثين وتبلغ حوالي 33 كتابا و600 دراسة ومقالة وهي ليست بمستوى رضائي ، لأن أغلبها يخدم حاجة آنية .

·        وماذا تذكر عن بغداد القديمة ؟
ـ أذكر سور بغداد القديمة الذي يحادد الآن منطقة الرحمانية في الكرخ ، ويستمر الى مقبرة الشيخ معروف وحين أذكره تتداعى كل الذكريات لأنه بموازاة السور كانت تقوم المكاسرة بين شباب أكثر من محلة وهي موسمية في الربيع فقط ، ومن ورائها الاستعمار الذي يشجع على التناطح فيما بين البغداديين أنفسهم فيموت البعض ويجرح البعض الآخر، وأذكر آخر مكاسرة حدثت أوائل الأربعينيات ثم اختفت بعد ذلك .

·        مارأيك في العمارة الحديثة ؟
ـ أريدها أن تعكس مرافق العمارة القديمة وأشكالها بمواد إنشائية جديدة . وأغلب ماهدم من بيوت بغداد القديمة لا يعد تراثا لأنها تعود الى العهد العثماني ، متهرئة وتكثر فيها العقارب .. وقد لدغتني إحدى هذه العقارب فعالجتها أمي بوضع النفط عليها .

يربي القطط .. ويصادق عنكبوتاً

·        هوايات العلوجي .. ماهي ؟
ـ ربيت القطط وأسميتها بأسماء خاصة اناديها بها فتأتيني ، وقد جنيت على أحدهم وكان اسمه شمعون ناديته باسمه فأتاني مسرعا فتسببت في دهسه ولكن العجيب أنه أوى الى تنور في دارنا وامتنع عن الطعام والشرب مدة اسبوع تقريبا خرج بعدها سليما ومعافى وعلمت أنه داوى جروحه بلعابه .
وصادقت أيضا عنكبوتا فترة عملي في علوة أبي ، كان شيخا عاجزا لا يستطيع إطعام نفسه فاصطاد له في كل يوم ذبابة وأقدمها له لينسج حولها جوعه  ثم يأكلها ، فتعود على ذلك وأصبح ينزل من نسيجه الذي في أعلى السقف ويأتي أمامي عندما أدخل العلوة.
أنا أيضا من صيادي السمك الماهرين لا يفلت مني الشبوط او الجري أبدا وهذه حسنات البيت إذا كان قريبا من النهر نهر دجلة طبعا.

·        هواياتك الأخرى ؟
ـ أنا من هواة الزروع أزرع وأقلم وأطعم وكانت في حديقة البيت القديم قبل استملاكه شجرة تحمل البرتقال والليمون الحامض والنارنج واللالنكي مرة واحدة وكذلك بالنسبة للورد والجوري فالشتلة الواحدة تعطي ألوان الورد المتعددة . كما إنني أهوى الموسيقى ولدي رأي في قضية (البستة) التي يقولون إن أصولها غير عربية ، وجدت عند الفيلسوف العربي الفارابي في كتابه "الموسيقي الكبير" أنه يتحدث عن نوع من الأغنية الخفيفة التي تريح الأعصاب وسماها (البسطي) والبستة تحريف عن البسطي ، ولكن لم يدرك أحد ذلك .

·        السينما...هل لك رأي فيها ؟
ـ لم أذهب الى السينما منذ أربعين سنة ، وحين يقال إن التلفزيون يؤثر على السينما فهذا صحيح ، وأنا أحد مواد الاختبار التطبيقية ، فالتلفزيون أغناني عن السينما كي أبقى مع أولادي وزوجتي . "

هذه الصور من برنامج "وجوه عراقية " ، قناة العباسية

الهوامش :

(1) حميد المطبعي ، موسوعة أعلام العراق ، 2011 ، باب العين ، ص 476 .
(2) أ. د إبراهيم خليل العلاف ، مع عبد الحميد العلوجي وحديث حول حكايات الموصل الشعبية ، المدونة الشخصية للعلاف ، 29 من كانون الأول 2009 م .
(3) رباح آل جعفر ، أيّام وليال في ضيافة العلوجي ، صحيفة الحوار المتمدن ، 17 من كانون الثاني 2011 م  .
(4) خالد القشطيني ، روح العصرنة ، جريدة الشرق الأوسط ، العدد 10369 ، 19 من نيسان 2007 م .
(5) مهدي شاكر العبيدي ، عبد الحميد العلوجي الكاتب الموسوعي المجبول على البساطة والتواضع ، مجلة الموروث الثقافية الالكترونية ، تصدر عن دارالكتب والوثائق الوطنية ، بغداد ، العدد 44 ، تشرين الأول 2011 م .

 *أرشيف دار الكتب والوثائق الوطنية  ، بغداد .

 **انظر صورة رسالة عبد الحميد العلوجي الى محرر جريدة الجمهورية ، المنشورة بتأريخ 24 من أيلول 1991 م .

 ***انظر صورة الحوار منشورة مع الموضوع هنا : عبد الحميد   العلوجييتحدث عن الحكاية الشعبية .. مَن هو اول من نقل وجمع الحكاية الشعبيةالعراقية ؟ ، هدى جاسم ، جريدة الجمهورية  ، العدد 7969 , 28 من آب  1991 م ، الصفحة قبل الأخيرة .

 ****انظر صورة الحوار منشورة مع الموضوع هنا : عبد الحميد العلوجي : أخشى أن أترك ورائي ألف " حتى "!! ، حوار : وداد الجوراني ، مجلة ألفباء ، الصفحات من 48 ــ 52 .

 *****صورة نشرها المؤرخ الأستاذ الدكتور إبراهيم العلاف في مدونته الألكترونية بتأريخ 24 من تشرين الثاني  2013م ، حملت التعليق الآتي : صورةتذكارية التقطت في المكتبة المركزية لجامعة الموصل سنة  1988م ،  تجمع من اليمين الأستاذ محمد زكي اسماعيل مسؤول إعلام الجامعة الأسبقوالمؤرخ واللغوي الأستاذ الدكتور حسين علي محفوظ ، والأستاذ الدكتور محمود الحاج قاسم طبيب الأطفال الموصلي ، والباحث التراثي ، والأستاذ عبدالحميد العلوجي رئيس تحرير مجلة المورد والمدير العام للمكتبة الوطنية العراقية  )سابقا) ، من أرشيف محمود الحاج قاسم .
*http://www.iraqnla-iq.com/fp/journal70/nafitha1.htm

صلاة الجمعة في جامع قبع - الزهور -الموصل

                                                                    الشيخ نافع عبد الله أبا معاذ   صلاة الجمعة بسم الله الرحمن الرحيم :...