الثلاثاء، 13 مارس 2012

درس النهضة الأوربية وموقف المؤرخين العراقيين والعرب منه


  درس النهضة الأوربية وموقف المؤرخين  العراقيين والعرب منه
ا.د.إبراهيم خليل العلاف
أستاذ التاريخ الحديث-جامعة الموصل
   المؤرخ العربي، والدارس العربي للتاريخ ، يستفيد حقا من دراسة تاريخ النهضة الأوربية  ، والتي هي حلقة الوصل بين العصور الوسطى والعصور الحديثة ،في التأكيد على مسألة مهمة وهي: " الاهتمام بالإنسان" . فقبل عصر النهضة كان "الاهتمام بالدين". وكان كتاب "مدينة الله " للقديس أوغسطين هو المصدر الأساس في النظر إلى الحياة ..وعند ظهور النهضة صار الاهتمام بالإنسان الذي هو محور التاريخ .
   لقد قامت النهضة في ايطاليا لقربها من الكنيسة ، فالكنيسة كانت مصدر كبت الحريات ،وإغراق الإنسان بتأثيرات الخطيئة الكبرى ،وتحميله الإنسان مسؤولية هذه الخطيئة . ويجب أن نتذكر ما كانت تصدره الكنيسة من "قرارات الحرمان" و"صكوك الغفران" ، والأثر السلبي الذي تركته تلك القرارات والصكوك على الإنسان وتقييد حريته .
   إن من أبرز خصائص النهضة الأوربية : ظهور الحركة الإنسانية، وبدء حركة واسعة  للتدوين والتوثيق والفهرسة ،وجمع المخطوطات والوثائق ، وعمل المعاجم والموسوعات والانسكلوبيديات، والاهتمام باللغات الأوربية الوطنية ، وبالتاريخ ،والآثار ،والفنون الجميلة .

   أما ابرز أعلام النهضة فهم مايكل انجيلو ، ومونتبلشيانو ، وليوناردو دافنشي، وارسموس ،  وميكافيللي ، وتوماس هوبز  ، وجون رودان  وديكارت وسبينوزا ،وروسو ،وجون لوك . ومن نتائج النهضة : "الاهتمام بالإنسان"، و"بالفنون "و"بناء المدن وتحديثها  ".و"التأكيد على الحرية"، و"الاهتمام باللغات الوطنية" . وتمتع الفرد بشخصية مستقلة ، وحرية في الرأي والتصرف.
   النهضة  لم تظهر في جميع أوروبا في وقت واحد ، بل ظهرت في مدن إيطاليا ، ثم تسربت إلى بقية غرب أوروبا ومنها فرنسا وألمانيا وهولندا وانكلترا .
    وقد وصلت النهضة أوجها أواخر القرن السادس عشر .كانت " الفنون" و"العمارة"، الميدانين المهمين اللذين تجلت فيهما النهضة ليس في ايطاليا وحسب بل في معظم الدول الأوربية .
    كانت النهضة بمثابة إحياء للتراث ، وإنعاش للتجارة ،وتغيير في أسس الحياة الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والثقافية .كانت تغييرا بل ، وثورة حتى في المفاهيم وأساليب الحياة والتعبير معا .
 في كتابه الشهير : "مقدمة في الاستغراب " يقول الفيلسوف العربي المصري الأستاذ الدكتور حسن حنفي : " لقد  استطاع  عصر النهضة الأوربي أن يعلن عن نهاية مرحلة وبداية أخرى في الوعي الأوربي، نهاية مرحلة المصادر، وبداية مرحلة التكوين الجديد. لقد استطاع إحداث قطيعة بين الماضي والحاضر، والتحول من الماضي إلى المستقبل. ونقد الموروث حتى يمكن التحرر منه كمصدر للعلم وكقيمة في السلوك. انتصر المحدثون فيه على القدماء. وتم التحول من سلطة أرسطو وشراحه المسلمين إلى سلطة العقل، والانتقال من سلطة الكتاب المغلق ( المقدس) إلى كتاب الطبيعة المفتوح، ومن التمركز حول الله إلى التمركز حول الإنسان، ومن البحث عن خلود الروح إلى البحث في طبيعة البدن وتكوين الجسم. فتم اكتشاف علم وظائف الأعضاء وعلوم الأحياء والتشريح والطب الحديث. وبالتالي أمكن للوعي الأوربي إبداع الجديد بعد أن تم تقويض القديم. أصبح الواقع عاريا من أية نظرية. وسقط الوئام النظري بين الأنا والطبيعة مما دفع الوعي الأوربي ليجد وئاما نظريا جديدا يستطيع به أن يفهم العالم، ويؤسس العلم الجديد بدلا من أرسطو، ويبني الدولة الجديدة بدلا من الكنيسة... " .وللاسف فأن ما حققه عصر النهضة الأوربي في أوربا لم يستطع عصر النهضة العربي تحقيقه وهذا يفسر أسباب التراجع الفكري ، والاستبداد السياسي ، والتخلف العلمي الذي عاشته الأمة العربية منذ أواخر القرن التاسع عشر حتى يومنا هذا .
    إن الأمر يحتاج إلى أكثر من ربيع ..إننا بحاجة إلى ثورة تتأكد فيها قيمة الإنسان ، ويعترف بموجبها بحريته وكرامته وبدوره في البنيان ،ومواجهة التعصب ،والتشدد ،والانغلاق ،والتواكل ،والركود ،والسلبية ،ونكران الآخر ،واستهجان آراءه ،وتسفيه منطلقاته .
     إننا بحاجة إلى العودة إلى الإسلام الحقيقي ..إلى الينبوع الأصلي حيث التسامح والإيمان بالرأي الاخر   و"لكم دينكم ولي دين " و" انك لست عليهم بوكيل " و"ان الينا ايابهم ثم ان علينا حسابهم " واحترام حرية الإنسان وتكريمه " " ولقد كرمنا بني ادم " وإتباع السلوك القويم والنطق بالكلمة  الطيبة الصادقة  والحكمة والموعظة الحسنة والعمل الجاد والاستقامة في الحياة والنظافة والصدق  واعتبار العمل عبادة ولتفاؤل بالمستقبل والعمل للدنيا وكان الإنسان يبقى ابد الدهر والسعي للآخرة وكأنه يموت غدا ..هذه هي مرتكزات النهضة الحقة ومتى اتجهنا نحو تطبيق هذه المرتكزات والأسس تحققت النهضة اولا في ذواتنا  ومن ثم في مجتمعاتنا ...والله لايغير ما بقوم حتى يغيروا انفسهم ، فالتغيير يبدأ من الإنسان والذي لايتغير يتعفن ، ومن تساوى يوماه فهو مغبون وإذا كان بيد أحدكم فسيلة وقامت القيامة فليغرسها . وفي هذا المجال لابد أن نشيد بجهود عدد من المفكرين العرب واهتمامهم بمعرفة أسباب نهضة أوربا ومن هؤلاء نذكر المفكر  الجزائري مالك بن نبي الذي أكد على أهمية دراسة الحضارة الأوربية ، والعودة إلى مظانها الأصلية ، ومتابعة تأثير الأفكار في التاريخ ، ونقد هذه الأفكار وفق منهج علمي تحليلي .
    وفيما يتعلق بأسهامات المؤرخين العراقيين  والعرب الرواد ، استطيع القول  أن كل المؤرخين الذين درست على أيديهم في الستينات من القرن الماضي وفي جامعة بغداد ، كانوا من دعاة النهضة ومؤيدييها. وكان معظمهم يؤمن بالحرية ،وبالإنسان ،وبفكرة التقدم والتنوير ..كانوا علمانيين في تفكيرهم لذلك اخذ " درس النهضة " حيزا كبيرا من دروسهم وكتاباتهم ومؤلفاتهم .اذكر الأستاذ الدكتور زكي صالح الذي كان يحرص على نشر أفكار النهضة بيننا نحن طلبته في قسم  الشرف بقسم التاريخ بكلية التربية  مطلع الستينات من القرن الماضي . وكان الأستاذ الدكتور فاضل حسين مؤمنا بالثورة على المجتمع القديم كان علمانيا - ديمقراطيا تقدميا قال لي مرة " انه كلف للتدريس في كلية الفقه بالنجف الاشرف مادة التاريخ الأوربي الحديث ،فدرس الطلبة  ثلاث ثورات هي : الثورة الانكليزية ، والثورة الفرنسية ، والثورة الروسية حتى يصبحوا ثوارا " .وكذلك الأستاذ الدكتور محمد محمد صالح الذي درسنا عصر النهضة ودور المؤرخين الأوربيين ،وكنا نعتمد  في دراستنا على كتابات المؤرخين الأوربيين أمثال هربرت فشر ،وكارلتون هيز  ولويس  كوتشلك  وادوارد كار وايمري نف .. وحتى الجيل الثاني للرواد كان مهتما بالنهضة حتى أن الأستاذ الدكتور كمال مظهر احمد ألف كتابا بعنوان " النهضة " .كما ترجم الأستاذ علي حيدر سليمان بعض أدبيات النهضة والإصلاح الأوربي ومنها كتابه المدرسي عن "تاريخ الحضارة الأوربية " الذي عده المسؤولون في التربية كتابا يشجع على الثورة ضد نظام الحكم فأبعدوا صاحبه عن التدريس . وللدكتور محمد مظفر الادهمي  إسهامات جيدة في هذا الميدان من خلال كتبه عن التاريخ الأوربي الحديث .ويجب أن لاننسى مجهودات من درسنا من علماء الاجتماع وخاصة الأستاذ الدكتور علي الوردي،  والأستاذ الدكتور حاتم عبد الصاحب الكعبي .وقد درسنا مادة فلسفة التربية أستاذ كبير غادر العراق منذ 45 سنة هو الأستاذ الدكتور حامد شاكر حلمي ..كان يربط  عند تدريسه بين رياضيات اينشتان وموسيقى ريمسكي كوساكوف وروايات جارلس ديكنز .كان أستاذا فذا متمكنا من موضوعه جوالا بين العلوم والفنون والآداب ..وكان يؤكد لنا على أن ندرس الفلسفة والنظرية الكشتالتية ويقول ان من يدرس الفلسفة يرى الغابة ومن لم يدرس الفلسفة لايرى إلا الشجرة وشتان من يرى الغابة كلها ومن يرى الشجرة.  
    كما أن للمؤرخين العرب الرواد دور في إشاعة أفكار النهضة ،والاهتمام بتدريسها . ولعل من ابرز الذين كتبوا في هذا المجال الأستاذ الدكتور محمد مصطفى زيادة والأستاذ الدكتور حسن عثمان والأستاذ الدكتور احمد عزت عبد الكريم والأستاذ الدكتور محمد أنيس  (مصر ) والأستاذ الدكتور أسد رستم والأستاذ الدكتور قسطنطين زريق(لبنان )  والأستاذ الدكتور نور الدين حاطوم( سوريا )  والأستاذ الدكتور أبو القاسم سعدالله (الجزائر ) والأستاذ الدكتور جيرمان عياش (المغرب )  والأستاذ الدكتور محمد جابر الانصاري (البحرين )  .
*المقالة كتبت جوابا على أسئلة الباحثين الدكتور طالب محيبس  حسن الوائلي والدكتور حسنين عبد الكاظم الشمري في 6 آذار –مارس 2012 واللذان يرومان كتابة بحث بعنوان : الاستغراب وآراء المؤرخين العراقيين في النهضة الايطالية مقارنة بالمؤرخين العرب في ضوء الدرس التاريخي الجامعي " .
**المصدر موقع الدكتور إبراهيم العلاف (الالكتروني ) ورابطه :www.dr-ibrahim-all-allaf.com





ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

النجف والقضية الفلسطينية .........في كتاب للدكتور مقدام عبد الحسن الفياض

  النجف والقضية الفلسطينية .........في كتاب للدكتور مقدام عبد الحسن الفياض ا.د. ابراهيم خليل العلاف استاذ التاريخ الحديث المتمرس - جامعة ال...