الأربعاء، 14 مارس 2012

الأستاذ الدكتور حنا بطاطو 1926-2000 والتأريخ الاجتماعي والاقتصادي للعراق الحديث


 الأستاذ الدكتور حنا بطاطو 1926-2000 والتأريخ الاجتماعي والاقتصادي للعراق الحديث
ا.د.إبراهيم خليل العلاف
أستاذ التاريخ الحديث –جامعة الموصل
    لم تتيسر لأي مؤرخ عراقي الفرصة للاطلاع على وثائق دوائر الأمن في أواخر العهد الملكي الهاشمي (1921-1958 ) وفي عهد الزعيم الركن عبد الكريم قاسم رئيس الوزراء والقائد العام للقوات المسلحة (1958-1963 ) ،مثلما تيسرت للمؤرخ الفلسطيني حنا بطاطو .فلقد أعانه الاطلاع على تلك الوثائق ، وما تضمنته من معلومات في غاية الأهمية والسرية على انجاز رسالته للماجستير سنة 1960 في جامعة هارفرد والموسومة : " الشيخ والفلاح في العراق 1917-1958 "  The Shaykh and the Peasant in Iraq, 1917-1958  ، وأطروحته للدكتوراه  الموسومة : " الطبقات الاجتماعية والحركات الثورية في العراق " .
   وفي  عمليه الأول والثاني  أكد الأستاذ  الدكتور بطاطو  ، أهمية ودور العوامل الاقتصادية والاجتماعية في سير حركة التاريخ العراقي الحديث  .وقد اعتمد على تحليل النصوص ، وإجراء المقابلات الشخصية ، واستنطاق الوثائق . ومن  الطريف انه حاول أن يطبق منهجه على مناطق أخرى في الهلال الخصيب فقدم دراسة مماثلة لما قدمه عن العراق حين قام بدراسة حول سوريا بعنوان : " فلاحو سوريا : سليلو الوجهاء القرويين الأقل شأنا، وسياستهم " Syria's Peasantry, the Descendants of Its Lesser Rural Notables, and Their Politics  " ، وقد نشرت الدراسة سنة 1999 .وقد يكون قد بدأ بدراسة أخرى عن المملكة العربية السعودية  -ووفق المنهج نفسه - لكنه لم ينجزها .
    ولد حنا بطاطو في مدينة القدس بفلسطين سنة 1926 وقد ترك فلسطين بعد عام النكبة سنة 1948  متوجها إلى الولايات المتحدة الأميركية ، وهناك درس في مدرسة ادموند ويلش للشؤون الخارجية Edmund A. Walsh School بجامعة جورج تاون . وبعد حصوله على الدكتوراه اشتغل في الجامعة الأميركية ببيروت 1962-1982 . ومنذ سنة 1982 وحتى تقاعده درس في جامعة جورج تاون في الولايات المتحدة وقد توفي سنة 2000م في وينستد –كونيكتيكوت .
    كان حنا بطاطو ذو ميول يسارية  ، لهذا اهتم بالدراسات الاقتصادية والاجتماعية . وقد ارتأى التخصص بالتاريخ الاقتصادي والاجتماعي للعراق الحديث .وعندما بدأ بالدراسات العليا جاء إلى العراق عدة مرات  ومنذ أواخر الخمسينات من القرن الماضي تمكن من الحصول على وثائق الأمن والتحقيقات الجنائية والشعبة الخاصة  والشرطة في العراق بفضل مساعدة بعض أصدقاءه من اليساريين كما قابل شخصيات كان لها دورها في الحياة السياسية العراقية . فضلا عن سجناء سياسيين كانوا يقضون فترات محكومياتهم في السجون والمعتقلات العراقية . وكان قد جمع وثائق كثيرة عن القوى السياسية العراقية وأعانته السلطات  الحكومية في العراق في مهمته العلمية .وبتوصية  خاصة من  بعض أساتذته في الجامعات التي كان يدرس فيها .
   لم تنشر رسالته للماجستير عن " الشيخ والفلاح في العراق 1917-1958 " ، بل نشرت أطروحته للدكتوراه " الطبقات الاجتماعية القديمة والحركات الثورية  الحديث في العراق " سنة 1978 في مجلد ضخم .وقد أحدثت هذه الأطروحة ضجة ليس في العراق وإنما في الأوساط  العلمية التاريخية في العالم لما تضمنته من معلومات ووثائق وحقائق عن العراق المعاصر وأتذكر ان استاذي الأستاذ الدكتور فاضل حسين حصل على النسخة الانكليزية من أطروحة بطاطو  بعد نشرها  بوقت قصير وكانت مجلدا ضخما  زادت صفحاته على ال1200 صفحة عدا الجداول والفهارس .وقد أعارني إياها لبضعة أيام فوجدت أنها أطروحة متميزة لم ينجز أحدا مثلها من قبل والسبب هو أن الأبواب للحصول على الوثائق في العراق قد فتحت أمامه وأتذكر أن الطلبة في الدراسات التاريخية العليا ومنهم كاتب هذه السطور قد طالبوا بالامتياز نفسه الذي حصل عليه بطاطو فأجيب طلبهم وتمكن عدد كبير منهم الوصول إلى دور الوثائق وسجلات وزارتي الداخلية والدفاع وكتبوا أطروحات مهمة ومن هؤلاء الدكتور محمد مظفر الادهمي والدكتور صادق حسن السوداني والدكتور جعفر عباس حميدي .

 تعرض الأستاذ الدكتور حنا بطاطو لكثير من النقد وكال له الكثيرين المديح .كما كتب البعض سلسلة من المقالات حول أعماله المنشورة ومن هؤلاء الأستاذ عزيز الحاج في مقالاته الموسومة : "حنا بطاطو والحركة الشيوعية العراقية " نشرت في أكثر من مكان .كما كتب الدكتور رياض الاسدي مقالا بعنوان " منهج حنا بطاطو التاريخي " في ملحق جريدة المدى الثقافي ، وكتب الأستاذ إبراهيم الحيدري في موقع ايلاف الالكتروني مقالة عن كتاب بطاطو بعنوان : "حنا بطاطو وتحليل الطبقات الاجتماعية في العراق " .كما كتب الأستاذ هادي العلي مقالا في الحوار المتمدن بعنوان :" تساؤلات مشروعة .. ما أسس له حنا بطاطو وروج لها آخرون؟ " .ومما قاله العلي –وهو محق - يبدو " إن هذا العالم الغريب الأطوار... ليس بريئا في مذهبه عندما حاول أن يثبت العلاقة بين صراع الطبقات والصراعات الاثنية وإسقاطها على العراق أولا ومن ثم حاول إسقاطها على سوريه دون أن تتاح له الفرصة كما أتيحت له بالعراق" .ويصل الأستاذ العلي إلى رأي جدير بالانتباه وهو "أن  كثيرا من الشكوك والتساؤلات المشروعة تثيرها مؤلفات حنا بطاطو فهل كان الرجل في خدمة اهداف دولية ...؟  ام انها جاءت بالصدفة في خدمة تلك الأهداف..." .أما الأستاذ الدكتور سيار  كوكب علي الجميل فكتب مقالا في الحوار المتمدن بعنوان " حنا بطاطو : مؤرخ العراق المعاصر مؤرخ غريب الأطوار لن يكتب أحد كمثله تاريخ العرب الحديث !! " قال فيه :" تفوق المؤرخ بطاطو كثيرا في منهجه ودراساته التي ركز العمل اجمعه من خلال السوسيولوجيا التاريخية منطلقا من المبادىء التي كان قد أسسها الفيلسوف الالماني المعروف ماكس فيبر ، فلقد نجح بطاطو في تطبيقاته لهذا المنهج في دراسة العراق وسوريا نجاحا باهرا .. ولعل أهم ما ميزه تأكيداته على عنصر القرابة والدم في صنع الاحزمة السياسية مؤكدا على الدور الاجتماعي في صناعة التاريخ .." .وأضاف إلى ذلك قوله :" أن  بطاطو قد أوقع نفسه في بعض الأخطاء الجسيمة وخصوصا عندما احضر العربة قبل الحصان .. كما وتوكأ على المنهج الماركسي في تحليل جملة من العلاقات الاجتماعية في الشرق الأوسط والتي تختلف جملة وتفصيلا عن تلك التي وجدها كارل ماركس وانكلز في مجتمعات غربي أوروبا .. فالإقطاع في العراق خصوصا هناك من ينفي وجوده إذا ما قورن بالبنى الإقطاعية التي عرفناها عن اوروبا ، لأن البنى الاجتماعية في العراق وخصوصا الزراعية قد اعتمدت مصالحها الاقتصادية على علاقة الفلاحين بالقبيلة...".ولم ينس الأستاذ الدكتور الجميل من أن يسأل الأستاذ الدكتور بطاطو  - وقد التقى به في احد المؤتمرات خارج العراق ،عن السر وراء المعاملة المتميزة التي حظي بها من المسؤولين العراقيين عند زياراته لبغداد - فقال : وقد جازفت معه لأسأله عن سر توغله المعمّق في الوثائق العراقية  ،وما سر فتح الحكومة العراقية مغاليقها وأضابير شخصياتها وأسرارها أمامه ... لكنه لم يحر جوابا  ، ونجح في تغيير الموضوع باسلوب مراوغ ، فابتسمت طويلا ، فقرأ قسمات وجهي التي عبرت له فيها عن جواب خفي منه إلي " .

     لقد اتفق كل من كتب عن الأستاذ الدكتور حنا بطاطو على انه اعتمد منهجا مغايرا لما كان مألوفا في وقته وهو اقرب إلى  المزاوجة بين المنهج الماركسي(كارل ماركس ) والمنهج الفيبري(ماكس فيبر )  في كتابة التاريخ الذي يعتمد التحليل الطبقي الاجتماعي لكنه –ومن وجهة نظري-لم يغرق نفسه في تفصيلات هذا المنهج وأدواته المعروفة وإنما استفاد من بعده التحليلي الاجتماعي وهذا ما يفعله الكثير من الباحثين والمؤرخين العراقيين وغير العراقيين ومعنى هذا أنهم يدرسون الظاهر الاجتماعية والاقتصادية من دون الالتزام بالتفسير الماركسي للتاريخ وخاصة في بعده النظري وقد أكون أنا واحدا من هؤلاء الذين عرفوا المنهج المادي الديالكتيكي  واستخدموه دون أن يجعلوه قيدا واعتقد انه لم يكن أحدا يمنع من اللجوء إلى مثل هذا الاستخدام .يقول الأستاذ عزيز الحاج –وهو محق ومن الذين اطلعوا على النسخة الانكليزية لكتاب  حنا بطاطو : " الطبقات الاجتماعية القديمة والحركات الثورية الجديدة في العراق "  The Old Social Classes…"والتي ترجمت  إلى العربية في ثلاثة أجزاء كما سبق أن قدمنا " إن كتاب بطاطو يعد  في مقدمة الكتب التحليلية ، والموثقة ، والمتميزة عن الأحوال السياسية والاجتماعية في العراق الحديث، وإلى بداية السبعينات من القرن الماضي . وهنا أنصح بمراجعة النص الإنجليزي لأن في الترجمة العربية ثغرات برغم الجهد الكبير للمترجم، الذي أحسن اختيار الكتاب للترجمة. وربما كان الأفضل لو قام بالمهمة أكثر من مترجم لضخامة الكتاب، ولدقة الموضوع، وكثرة المصادر" .
    إن ثمة ثغرات  كثيرة في كتاب بطاطو  ، منها انه اعتمد على ماجاء في الوثائق على علاته ، ولم يدقق في الحوادث ، ولم يكن على معرفة جيدة ببعض من كتب عنهم لبعدهم عن أجواء العراق ومناخاته العلمية . كما غمط دور بعض القوى والشخصيات السياسية وخاصة التي كانت تعمل تحت شعارات الديمقراطية -الاشتراكية - الليبرالية كالحزب الوطني الديمقراطي وزعيمه الأستاذ كامل الجادرجي  وحتى حزب الاستقلال وزعيمه الشيخ محمد مهدي كبة  مع أنني أرى أن الحزبان تسيدا الساحة السياسية العراقية منذ أواخر الحرب العالمية الثانية وحتى مطلع الستينات من القرن الماضي .ازعم انه ركز على " الحركة الشيوعية العراقية " وعلى"  تنظيم الضباط الأحرار " ولربما كانت بعض الجهات العلمية والأكاديمية والسياسية الأميركية تريد منه ذلك فمن خلال البحث العلمي قد يقدم الباحث بعض المعلومات لصناع القرار ويفيدون منها بعلم الباحث أو بدون علمه ..وحتى فيما كتبه عن الحركة الشيوعية فهناك الكثير من الملاحظات التي سجلتها وسجلها غيري على كتابه ومنها انه لم يعط مؤسس الحزب يوسف سلمان يوسف مايستحقه كما انه لم يتصل ببعض قيادات الحركة الشيوعية واعتمد على ما فرته له وثائق الأمن والتحقيقات الجنائية  والبعض ممن كان مناوئا  للشيوعية في العراق .
  على أية حال فأن كتابات الأستاذ الدكتور حنا بطاطو –رحمه الله وجزاه خيرا  ، مهمة ومفيدة في التأريخ للتحولات الاقتصادية والاجتماعية للعراق الحديث ، وتعد مصدرا لاغنى عنه ولكن يجب أن لاتعد المصدر الأوحد ، ولابد من العودة لما انجزه ممثلي"  المدرسة التاريخية العراقية المعاصرة " من رسائل وأطروحات وكتب ودراسات وبحوث ومقالات ،منذ أوائل السبعينات من القرن الماضي وحتى يومنا هذا .


 

هناك تعليق واحد:

النجف والقضية الفلسطينية .........في كتاب للدكتور مقدام عبد الحسن الفياض

  النجف والقضية الفلسطينية .........في كتاب للدكتور مقدام عبد الحسن الفياض ا.د. ابراهيم خليل العلاف استاذ التاريخ الحديث المتمرس - جامعة ال...