مثري العاني..الكاتب والمسرحي والإنسان
ا.د.ابراهيم خليل العلاف
استاذ التاريخ الحديث –جامعة الموصل
منذ 40 سنة وأنا اقرأ للأستاذ مثري العاني. وقد كانت بداية اهتمامي هي بما يكتبه في مجلة الثقافة (البغدادية ) لصاحبها الأستاذ الدكتور صلاح خالص. وأتذكر بان أول مقال أعجبت به كان عن الأستاذ والمربي والمسرحي الرائد يحيى ق الشيخ عبد الواحد .وقد نشر المقال سنة 1973 وقد علمت فيما بعد أن المقال كان بالأصل محاضرة ألقاها في مركز شباب الموصل . ومنذ ذلك الوقت تربطني بالأستاذ مثري العاني صداقة وثيقة قائمة على الاحترام وتبادل الآراء بشأن حركة النشر في عراقنا العزيز .
مثري طه محمد العاني من مواليد مدينة الموصل سنة 1940 درس في مدارسها الابتدائية(القحطانية ) والمتوسطة (الحدباء )والإعدادية( المركزية ) ، وفصل أكثر من مرة بسبب توجهاته اليسارية .عشق الكتاب ،ومارس الكتابة وقد عرف بين أصدقائه بقدرته على اختيار الجيد والمفيد من الكتب التي كثيرا ما كان يسعى من اجل الحصول عليها إن كان ذلك من شارع ألنجفي في الموصل أو شارع المتنبي في بغداد أو من معارض الكتب العراقية والعربية والأجنبية المنتشرة هنا وهناك .
جال معه الأستاذ شريف هزاع شريف في مجلة موصليات(العدد 24 ) التي يصدرها مركز دراسات الموصل ، جولة واسعة فوقف عند تقاليده في الكتابة والنشر وامتدحه قائلا بأنه كاتب متخصص بالمسرح العراقي وهو كذلك فعلا . نشر أكثر من 200 مقالا ودراسة وبحثا في المسرح والتراث والنقد لذلك اختير من الأوساط التراثية العربية ليكون خبيرا في التراث الشعبي العراقي عامة والموصلي خاصة .وله كتابات عديدة في هذا الميدان في مجلة التراث الشعبي (العراقية ) العتيدة وفي غيرها من المجلات التراثية العربية .
يفخر اليوم بأنه كان في يوم من الأيام قائدا طلابيا ، وقد أسهم في انتفاضة 1956 التي انفجرت اثر العدوان الثلاثي الاثيم على مصر. وقد شارك أقرانه في المظاهرات الشعبية التي اندلعت في الإعدادية المركزية في يوم تشريني وأتذكر بأنني كنت طالبا في مدرسة أبي تمام الابتدائية فانهمرت الدموع من أعين الطلاب، وجاء المعلم ليطمئننا بان الأمر ليس فيه خطر فلقد أطلقت الشرطة وكانت تسمى شرطة نوري السعيد القنابل المسيلة للدموع لفض اعتصام طلاب الإعدادية المركزية القريبة من مدرستنا فجاءت الرياح لتنقل آثار تلك القنابل إلينا .
وعلى اثر تلك التظاهرات انتخبه زملائه ،وبعد نجاح ثورة 14 تموز 1958 وسقوط النظام الملكي وتأسيس جمهورية العراق أول سكرتير لاتحاد الطلبة في الموصل .كما صار عضوا في المجلس المركزي .في 1959 عين كاتبا في نقابة المعلمين فرع الموصل وترك الدراسة بسبب الصراعات السياسية والظروف الاقتصادية . وقد تعرض للاعتقال والاغتيال ، وغادر الموصل إلى اربيل ثم الى بغداد في اليوم الأول من سنة 1961 وتفرغ للعمل السياسي وعين كاتبا ومعقبا لمعاملاتها في الدوائر الرسمية في جمعية بناء المساكن للمعلمين في ساحة النصر بتوسط الدكتور صفاء جميل الحافظ وكان رئيس الجمعية احمد اسعد عبد الكريم شقيق الفنانة المسرحية المعروفة زينب ،واستمر الأمر هكذا حتى سقوط نظام حكم الزعيم الركن عبد الكريم قاسم رئيس الوزراء في 8 شباط –فبراير 1963 .وخلال الفترة 1963-1968 تعرض للمضايقات من السلطة الحاكمة واعتقل في 17 شباط 1963 وأحيل للمحاكمة في المجلس العرفي العسكري الثاني في كركوك وحكم عليه بالسجن ستة أشهر لكن سرعان ما اعفي عنه ولكن الملاحقة الأمنية له ظلت مستمرة
من الطريف أن يتحدث الأستاذ حسب الله يحيى وكان من المثقفين اليساريين المرتبطين بالحزب الشيوعي عن بدايات معرفته بالأستاذ مثري العاني في سنة 1964 عندما التقاه في زنزانة واحدة بمركز شرطة باب الشط بالموصل في مقال قال فيه : " في الوقت الذي انصرفت فيه أربعة عوائل لدفن أبنائها الذين أعدموا : فجر يوم 24 آب-أغسطس 1964 ومنهم... أخي وعد الله ... كنت أقبع في سرداب التوقيف الذي بمركز شرطة باب الشط في الموصل ..
هناك في الموقف استقبلني بحفاوة رجل بهي الطلعة وقد عرفت فيما بعد أن اسمه : مثري العاني .
كنت حذراً من وجودي بين الموقوفين .. فقد كانت عائلة العاني في الموصل تصطف في موقع مناويء لما نحمله من أفكار ورؤى(عائلة قومية عربية ) .. لكن هذا (المثري) كان ثرياً بطيبة غير معهودة .. فقد عني بي وقدم لي الطعام والمنام في سجن يفرط نزلاؤه بأصغر شيئ ويتنازعون من اجله نزاعا خشنا
وفي وقت يجتمع فيه القتلة والمجرمون واللصوص والمفسدين في الارض مع أولئك الذين جاءت بهم أفكارهم المضيئة الى هذا المكان المظلم المليء بالتناقضات .
لم أكن اعرف التهمة الموجهة لي ، لكنني كنت أحس أن عظامي تتكسر وهناك من يشد أزري ويقدم لي أقراصاً مهدئة وماءاً بارداً .. ويداوي جراحي التي لم يكن بوسعي لمسها ولا رؤيتها .. ذلك أنها أصابت أماكن غير مرئية مني ..
كان الوقت صعباً والآتي مكتوم والأسباب مجهولة .. لكن هذا المثري النبيل كان يعرف كل شيء من دون أن يقول لي أي شيء كأنما كان يسعى لأخفاء ما يعلم عن مصابي في إعدام أخي ورفاقه في سجن الموصل فجراً..
كنت أراه يجلس إلى جانبي،يحدق في وجهي وكلما فتحت عيناي وجدته على تماس بي وهو يكتم ألماً بان في وجهه وعبر عن حفاوته ومودته وعطفه..." . ..
هناك في الموقف استقبلني بحفاوة رجل بهي الطلعة وقد عرفت فيما بعد أن اسمه : مثري العاني .
كنت حذراً من وجودي بين الموقوفين .. فقد كانت عائلة العاني في الموصل تصطف في موقع مناويء لما نحمله من أفكار ورؤى(عائلة قومية عربية ) .. لكن هذا (المثري) كان ثرياً بطيبة غير معهودة .. فقد عني بي وقدم لي الطعام والمنام في سجن يفرط نزلاؤه بأصغر شيئ ويتنازعون من اجله نزاعا خشنا
وفي وقت يجتمع فيه القتلة والمجرمون واللصوص والمفسدين في الارض مع أولئك الذين جاءت بهم أفكارهم المضيئة الى هذا المكان المظلم المليء بالتناقضات .
لم أكن اعرف التهمة الموجهة لي ، لكنني كنت أحس أن عظامي تتكسر وهناك من يشد أزري ويقدم لي أقراصاً مهدئة وماءاً بارداً .. ويداوي جراحي التي لم يكن بوسعي لمسها ولا رؤيتها .. ذلك أنها أصابت أماكن غير مرئية مني ..
كان الوقت صعباً والآتي مكتوم والأسباب مجهولة .. لكن هذا المثري النبيل كان يعرف كل شيء من دون أن يقول لي أي شيء كأنما كان يسعى لأخفاء ما يعلم عن مصابي في إعدام أخي ورفاقه في سجن الموصل فجراً..
كنت أراه يجلس إلى جانبي،يحدق في وجهي وكلما فتحت عيناي وجدته على تماس بي وهو يكتم ألماً بان في وجهه وعبر عن حفاوته ومودته وعطفه..." . ..
عاش الأستاذ مثري العاني سنوات صعبة وحاول العودة إلى الموصل سنة 1968 ليبدأ الدراسة من جديد ، وليكمل الإعدادية وتمكن من دخول" إعدادية الشعب المسائية " ،وتخرج فيها سنة 1968 وبعدها عين في دائرة الأشغال والإسكان وظل حتى طلبه الإحالة على التقاعد قبل سنوات ومن المناسب الإشارة إلى ما يحمله زملائه في دائرة الأشغال والإسكان له من احترام وتقدير.
اهتم الأستاذ مثري العاني بالمسرح والنشاط المسرحي وألف سنة 1958" فرقة الحدباء للتمثيل المسرحي" التي قدمت في باكورة نشاطها مسرحية المفتش العام ل(غوغول ) الكاتب الروسي الشهير في 30 نيسان –ابريل 1959 وقد شاركه في تأسيس هذه الفرقة عدد من طلبة متوسطة الحدباء للبنين في الموصل .كما عمل في الإخراج المسرحي .وانتمى إلى فرقة مسرح الأحرار سنة 1961 . واسهم في تعريق بعض المسرحيات ومنها على سبيل المثال مسرحية "أغنية على الممر " سنة 1970 وعرضت في الموصل ونالت الجائزة الأولى على غيرها مما قدم من المسرحيات .وقد كتب العديد من المقالات عن المسرح العراقي ورواده ،وكان على صلة طيبة بأساطين المسرح العراقي المعروفين ومنهم الأستاذ يوسف العاني والأستاذ جعفر السعدي والأستاذ بدري حسون فريد وكانوا يحبونه ويقدرون عمله ويحترمون رأيه .وقد نشر مقالاته ودراساته في مجلات موصلية وعراقية وعربية ومما اتسمت به مقالاته أنها كانت تعبر عن هموم الناس الفقراء والمتعبين والساخطين على الأوضاع السياسية السائدة .
عشق المسرح، وكتابه، ورواده ،واسهم في كثير من ملتقياته وخاصة في سنوات الثمانينات من القرن الماضي .ويعكف اليوم على توثيق إسهامات عدد من رواد الفكر والثقافة في الموصل .كما انتهى من مشروع كلفته به مؤسسة البابطين في الكويت سنة 2007 ، ويقوم على توثيق سير وانجازات 27 شاعرا عراقيا. كما انه شارك في تحرير موسوعة أعلام العرب والمسلمين التي ترعاها المنظمة العربية للثقافة والفنون –تونس بالكتابة عن قرابة 100 شخصية علمية عراقية وعربية وإسلامية.
الأستاذ مثري العاني مثلما هو مهموم بقضايا الناس المسحوقين فأنه مهتم بالمثقفين وخاصة أولئك الذي قدموا لوطنهم ساعد على نهضته وتقدمه . وينشغل الأستاذ العاني اليوم بثلاثة أمور يرى أنها جديرة بالاهتمام وهي المسرح والتراث الشعبي والتأريخ لمن أسهم في البناء والتقدم وعلى مختلف الأصعدة ومنها الصعيد الثقافي والفكري .
يدعو الأستاذ مثري العاني إلى الاهتمام بالرغيف والكتاب .وقد كتب مقالا في مجلة الصوت الآخر (الاربيلية ) قال فيه : " إن تدخل الدولة لتوفير الكتاب واحد من الأهداف الأساسية لها ...رغيف الخبز والكتاب مادتان أساسيتان في حياة جمهرة واسعة جدا وكبيرة جدا تبدأ مع الإنسان منذ بدايات حياته وهو يحبو ولا تنتهي ... لابد من توفيرهما بأرخص الأسعار " .كما يؤكد على الاهتمام بتربية الأطفال ويرى أن المسرح وسيلة مهمة في هذا المجال وقد كتب مقالا عن مسرح الطفل قال فيه انه مثلما يتلقى الطفل المبادئ الأولية للقراءة والحساب والعلوم الأخرى، وزرعها في ذاكرته عبر مختلف المراحل الدراسية، لذا فان من الضروري تربية الطفل على حب المسرح وارتياده والمشاركة فيه والتفاعل معه، لكي نخلق منه إنسانا ذا ذوق رفيع
كتب عنه الأستاذ الدكتور عمر الطالب في "موسوعة أعلام الموصل في القرن العشرين " فقال بأن ظروفه الاقتصادية حالت دون إكماله الدراسة في كلية الحقوق –جامعة بغداد وقد انصرف للاهتمام بالكتابة للمسرح، وكتب مسرحيات منها "الصخرة " .ولم يقعده مرضه وصعوبة تحركه عن أن يكون اليوم في أوج نشاطه الثقافي والكتابة في مجالات المسرح والتراث الشعبي فضلا عن القراءة الدؤوبة .
رصد الأستاذ الدكتور صباح نوري المرزوك في "معجم المؤلفين والكتاب العراقيين 1970-2000 " جانبا من إنتاج الأستاذ مثري العاني وخاصة تلك المنشورة في "مجلة التراث الشعبي " ومعظمه يدور حول موضوعات " اثر التراث في المسرح " ، و"العاب التسلية عند الأطفال " و" حمام النفاس " و" من عادات العناية بالطفل قديما "و "ألموني =المؤونة في الموصل " .كما اصدر قبل سنوات قليلة كتابا عن المسرحيات التي سبق له أن كتبها ونشر الكتاب في الموصل .ومن كتبه "الرجال يأكلون أنفسهم "2005 ، و"مسرحيات يحيى ق الشيخ عبد الواحد " و" المستدرك على موسوعة أعلام الموصل في القرن العشرين " للأستاذ الدكتور عمر محمد الطالب رحمه الله .وقد أسهم في تحرير" موسوعة الموصل التراثية "التي أصدرها مركز دراسات الموصل .واسهم في تحرير كتب منها كتاب بعنوان " بشير مصطفى الشاعر والمعلم والصحفي " وكتاب بعنوان : " في التعايش السلمي وفهم الآخر " .
الأستاذ مثري العاني إنسان طيب ، ونظيف ، ومتواضع يحترم الآخرين ويساعدهم في التعبير عن آرائهم حتى لو كانت مخالفة لرأيه . يؤمن بفكرة التقدم ، وبقدرة الإنسان على أن يغير محيطه وينبذ العنف والتعصب وهو يدعو إلى التعايش واحترام حقوق الإنسان ويدافع عن التسامح بين البشر ويعطي قيمة للنشاط الفكري الإنساني ويعمل على تيقظ الأفكار وتوسيع قاعدة المؤمنين بضرورة الثقافة لبناء الإنسان تحية له وندعو له بمزيد من العطاء الثقافي خدمة لوطنه ولامته وللإنسانية .
.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق