الأحد، 27 ديسمبر 2009

قضية الحجاب في تركيا ..دراسة للدكتورة سناء عبد الله عزيز الطائي


قضية الحجاب في تركيا
د.سناء عبد الله عزيز الطائي
مركز الدراسات الاقليمية -الموصل

لعل من أبرز ما كان يحرص عليه مصطفى كمال أتاتورك وهو يحث الخطى نحو جعل تركيا دولة علمانية , أبراز الجوانب المظهرية في الشخصية التركية من خلال إصدار سلسلة من الإجراءات والقوانين التي أكدت على قطع صلة بلاده بالشرق وبتقاليده , ومن بين ما أكد عليه هو ضرورة التزام المرأة التركية بنوع من اللباس الغربي الذي عكس إلى حد كبير ما شهدتهُ تركيا منذ مطلع القرن العشرين من تغيرات جوهرية في البنى الاجتماعية والاقتصادية والثقافية , ومن هنا فقد شكلت قضية الحجاب الراهنة في تركيا إحدى المشاكل التي لا تزال تنغص مضجع العلمانيين بل والمؤسسة العلمانية التركية برمتها .
وبقدر ما يتعلق الأمر بالقوى والتيارات الإسلامية فأن قضية الحجاب تمثل لديهم حالة مهمة من حالات التمسك بالثوابت الإسلامية , لذا فأننا نلحظ باستمرار أن ثمة صراع ذو أبعاد مختلفة يدور في تركيا بين العلمانيين والإسلاميين حول قضية الحجاب، ولغرض فهم هذه القضية ووضعها في إطارها التاريخي لابد معرفة الكثير من جوانبها سواء من الناحية الشكلية أو الناحية الجوهرية .
مفهوم الحجاب:
نقصد بالحجاب لغة يعني: الستر , وحجب الشيء يحجبه حجبا , وحجبه سترة , وامرأة محجوبة قد سترت بسترة .
أما اصطلاحا . فمعناه أن تستر المرأة بدنها عن الرجال الذين ليسومن محارمها , عملا بقوله تعالى  ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها وليضربن بخمرهن على جيوبهن ولا يبدين زينتهن ألا لبعولتهن أو آبائهن أو أباء بعولتهن أو أبنائهن أو أبناء بعولتهن أو إخوانهن .

أما بخصوص موضوع الحجاب في تركيا , فأن الأغلبية الساحقة من سكان تركيا يعتنقون الدين الإسلامي , ويشكل المسلمون حوالي 99% من مجموع السكان , وقد لعب الإسلام الدور الأهم من حياة الإمبراطورية العثمانية حيث جمع السلطان العثماني بيده السلطتين الدينية والدنيوية ، ومع إقامة الجمهورية التركية سنة 1923م بدأت الحكومة بأتباع سياسة علمانية كان الهدف منها بالدرجة الرئيسية منع علماء الدين وقوى المعارضة من استخدام الدين كأداة ضدهم ، فضلا عن أن الكمالية قدمت مجموعة من الأفكار التي بلورها رئيس الجمهورية مصطفى كمال(1923-1938) ، على أنها المنظومة التي تتيح لتركيا الخروج من مرحلة سابقه اتسمت " بالتخلف والتشرذم " ومحاولة الخروج منها والدخول في عالم الحضارة الغربية حيث وصف ذلك بقولة " الحضارة التي يجب أن ينشئها الجيل التركي الجديد هي حضارة أوربا مضمونا وشكلا ،لأن هناك حضارة واحدة الأوربية ، هي الحضارة القائدة ، والحضارة الموصلة إلى القوة والسيطرة على الطبيعة ، وخلق الإنسان السيد والأمة السيدة .... وان جميع أمم العالم مضطرة إلى الأخذ بالحضارة الأوربية لكي تؤمن لنفسها الحياة والاعتبار " .

أما عن قضية الحجاب في تركيا فأن الرؤية بالنسبة للحجاب تختلف بحسب نوعه ، وهم يضعون نوعين للحجاب ، احدهما تقليدي متوازن. بحكم العادات الاجتماعية والدينية ، أما الأخر فهو تعبير سياسي يحمل معه قناعات وإيديولوجيات خاصة ، والأول ظل حاضرا في الأرياف والقرى التركية منذ الاستقلال ، بينما الآخر لم يظهر ألامع صعود الحركات الإسلامية في تركيا نهاية الستينات من القرن الماضي (،حيث سعت تركيا لكي تكون عضوا في المجموعة الأوربية ، الذي تقتصر عضويته حتى الآن على دول أوربية مسيحية ، ألا أن تركيا والمغرب قدما طلبا للانضمام إلى الاتحاد ، وقد قوبل الطلب بالرفض ،وقد علل الرفض الأوربي للطلب المغربي بحجة العامل الجغرافي بكونها دولة افريقية وليست أوربية , أما بالنسبة إلى تركية فعلى الرغم من أن قسما من أراضيها تقع في أوربا , ألا أن الأوربيين ينظرون أليها على إنها بلد أسيوي .
ولعل مما ينبغي التأكيد عليه هو أن الخطوات التحديثية التي أقدمت الحكومات التركية المتعاقبة عليها لا تلغي واقع أن تركيا بلد مسلم له وشائح قربى ومصير مع المحيط الإسلامي , وربما قد تنجح تركيا في تحقيق بض الخطوات على الصعيد الاقتصادي , ألا إنها لا تستطيع أن تحقق نجاحا على القيم الأخرى , ومن هذه القيم موضوع الحجاب والذي أصبح منذ عام 1980 وحتى الآن سببا في استقطاب الرأي العام التركي خاصة والإسلامي عامة .
الحكومات التركية وقضية الحجاب:
لو بحثنا عن البداية الحقيقية لقضية الحجاب لوجدنا أن أول ظهور لها كان 1966-1967 حيث كانت الطالبة نسيبة بولايجي الطالبة في المرحلة الأولى بكلية الإلهيات في انقره تدخل محاضرتها بالحجاب لفترة ما , ألا أنها خلعته بعد ذلك بعد التحذيرات الشديدة التي وجهت أليها , وفي العام التالي دخلت خديجة بابجان الطالبة بنفس الكلية محاضرتها بالحجاب , وعلى الرغم من التحذيرات , ألا أنها أبت الرجوع عن ذلك وبعدها ارتفع عدد الطالبات المحجبات إلى ست .
ويعتبر عام 1980 البداية الحقيقية لمعاناة المسلمات التركيات من قضية الحجاب , خاصة بعد أن استولى الجيش على السلطة واصدر جملة من القرارات الظالمة من أبرزها منع الطالبات المسلمات من ارتداء الحجاب في الجامعات فضلا عن المدارس والمعاهد وبقية مؤسسات الدولة مما اضطر معه عدد من العوائل المسلمة في تركيا إلى تعليم بناتهن في جامعات أجنبية في الولايات المتحدة الأمريكية ودول غربية أخرى لا تمنع من ارتداء الحجاب في الجامعات كما تحظره تركيا.
ويمكننا في هذا الصدد أن نشير إلى إن بنات رجب طيب اردوغان(رئيس وزراء تر كيا) نفسه , يدرسن في الجامعات الأمريكية التي لا تحظر ارتداء الحجاب.

ولقد أشارت الإحصاءات الأولية إلى أن معظم الطالبات من اللواتي أردن متابعة دروسهن في الخارج اخترن النمسا وألمانيا وايرلندا وهولندا والمجر وأذربيجان ، والغالبية قصدن أذربيجان لأنها دولة مسلمة وتتفق تقاليدها وأعرافها مع التقاليد التركية ، والمفارقة هنا أن الدولة الثانية الأكثر اختيارا للحجاب هي المجر،
والسبب هو أن جامعة بودابست بادرت إلى إرسال لجنة علمية منها إلى اسطنبول لأجراء اختبارات قبول للطالبات ، وهذا ضمن لهن معرفة وضعهن في بلادهن ، أما النمسا فأنها تقدم بعض المنح للطلبة الأتراك ، ومن هؤلاء (سمرة باتور ) البالغة من العمر 24 عاما حيث واصلت تعليمها هي والعديد من زميلاتها التعلم في أذربيجان وتقول سمرة :"انه أمر صعب بالطبع لكننا اضطررنا لعمل ذلك ، لقد فعلت ما يجب أن افعله لأنني كنت أريد استكمال تعليمي ، لنا الحق في التعليم ".
ومنذ العام 1998 أتخذ المجلس الأعلى للتعليم في تركيا قرارا يقضي بطرد المحجبات من الجامعات حتى ولو لم يبق على تخرجهن سوى ساعات , وكان ذلك في أطار ما سمي بـ عملية ( 28 شباط ) 1997 من جانب مجلس الأمن القومي التي استهدفت حكومة نجم الدين اربكان وكل ماله رائحة دينية ومنذ ذلك التاريخ بلغ عدد المطرودات من الجامعات نحو أربعين ألف طالبة) .

كما أثارت قضية النائبة المحجبة مروى قاواقجي منذ انتخابها في( 18 نيسان )1999 ضجة كبيرة حيث أبلغ رئيس أركان الجيش ( حسين كيفربك اغلو ) رئيس الحكومة (بولند اجاويد ) ورئيس الجمهورية ( سليمان ديميريل ) أثناء جلسة افتتاح المجلس الوطني التركي الكبير بأنه لا يمكن القبول أبدا بأي محاولة من جانب مروة قاواقجي لأداء اليمين الدستوري وهي محجبة , وفسر ذلك على انه تهديد بتدخل الجيش .
إلا أن مروى قاواقجي استطاعت أن تتحدى كل الظروف وتدخل قاعة البرلمان حيث قوبلت بتصفيق نواب حزب الفضيلة , في حين نهض نواب حزب اليسار الديمقراطي وبدأوا يضربون على الطاولات ويهتفون " إلى الخارج إلى الخارج " ألا أنها جلست تحت رعاية نازلي ايليجاف النـائبة المحجبة عن حزب الفضـيلة والى جانبها .
ومنذ ذلك التاريخ تصدرت قضية ( الحجاب ) اهتمام الجميع وتحولت إلى مادة أساسية في الصراع السياسي الداخلي , ولقد ميز النائب عن حزب الطريق الصحيح ( طورهان غوفين ) بين منع الحجاب في الدوائر الرسمية ومنعه في الجامعات حيث يقول غوفين :" نحن ضد استخدام غطاء الرأس قضية سياسية , ولكن لاحق لأحد بالتدخل في شؤون الناس الذين ليسو موظفين , حيث توجد أحكام حول القيافة في الدولة , وعلى موظف الدولة احترام قوانينها عند دخوله إلى دائرة رسمية , هذا عقد اجتماعي لكنه لا يسري على الجامعات ويجب عدم التدخل في القيافة في مؤسسة حرة ديمقراطية وخاصة ".
واستمر المنع للحجاب في المدارس والجامعات وقاعات المحاكم والإدارات الحكومية , وقد أجري استطلاع للرأي اجري في تركيا أخيرا اظهر انه ما يقرب من 60% من النساء في تركيا يغطين رؤوسهن خارج منازلهن
وهنا يطرح سؤال وهو هل أن منع الحجاب قانونيا أم لا , والمادة 24 من الدستور تجيب عن هذا السؤال حيث تنص على انه لا يمكن إدانة احد واعتباره مذنب بسبب قناعته الدينية والإيمانية , وعليه فأن أجبار إنسان ما رجل كان أو امرأة على ارتداء ما يخالف قناعته الدينية أمر مخالف للدستور . .
هذا فضلا عن أن المنع ليس قانونيا بل انه خطوة كيفية ويؤكد ذلك انه المحكمة الدستورية التي رفضت أبطال الملحق ( 17 ) من القانون 2547 والذي يطلق حرية ارتداء الزى في الجامعات بالأضافة إلى أن المادة التاسعة من اتفاقية حقوق الإنسان الأوربية والتي تركيا عضوا فيها تنص على عدم التعرض لأي إنسان بسب إيمانه الديني وعليه فان منع الحجاب مخالف لهذه الاتفاقية .

ثم دخلت قضية الحجاب في تركيا مرحلة جديدة أثر وصول حزب الرفاه إلى السلطة عام1996 . عندما بدأت المرأة الإسلامية بالدخول إلى ميدان النضال السياسي , وأصبحت تشكل عاملا مهما في الحياة السياسية , فكان أول ما قام به حزب الرفاه من اجل الانتخابات العامة , أن اظهر المرأة في دعاياته وهتافاته على أنها امرأة مظلومة ومستغلة ومضطهدة بسبب حجابها , وبناءً عليه تشجعت المرأة ودخلت ساحة النضال وعبرت عن مطالبها . .
وبعد وصول حزب العدالة والتنمية عام 2002والذي احد كوادره التيار الإسلامي إلى أعلى هرم في السلطة احدث تغييرا كبيرا في قضية الحجاب فبعد سنوات من العراقيل السياسية و القانونية استطاع هذا التيار أن يتجاوز ويتخطى كل الصعوبات ليكون على رأس هرم السلطة داخل الساحة السياسية التركية . .
وفي عام 2008 اعتمد المجلس الوطني التركي مشروع الإصلاح الدستوري والذي يتضمن تعديلا يسمح بارتداء الحجاب في الجامعات وصوت 411 نائبا في المجلس الوطني التركي الكبير ( البرلمان ) والمؤلف من 550 مقعدا لصالح اعتماد الإصلاح الدستوري بكامله , وهذا معناه أن أكثر من غالبية الثلثين المطلوبة لصناعة مثل هذا القرار الذي يراه البعض راديكاليا وأصوليا وسيرا في خطى الدولة التي تطبق الشريعة الإسلامية أو يغلب عليها الصبغة الإسلامية , وتم هذا الاعتماد في تصديق نهائي غلبت فيه أصوات نواب حزب العدالة والتنمية وحزب الحركة القومية المعارض . .
وبذلك سلكت قضية الحجاب في تركيا وبعد أربعين سنة من التوترات السياسية والاجتماعية طريقها إلى الحل حيث عثرت هذه القضية إلى من يحتضنها ويرعاها حيث سهل حزب الحركة القومية والذي سهل من قبل عملية انتخاب عبد لله غول رئيسا للجمهورية بتوفير نصاب الثلثين للتأييد بأجراء تعديل دستوري ..
ولقد واجه قرار الحكومة معارضة شديدة , حيث تظاهر ألآلاف من العاصمة التركية في أنقرة احتجاجا على خطة الحكومة بالسماح للنساء بارتداء الحجاب في الجامعات التركية .
الاستنتاج :
لم يعد الحجاب مجرد احد إشكال تغطية رأس المرأة بل تحول إلى أداة مواجهة بين من يرونه فيه رمز سياسيا وبين من يرونه احد متطلبات الأيمان وعليه توصل البحث الى مجموعة من الاستنتاجات وهي:.
1- أن قضية الحجاب (في تركيا ) أصبحت إحدى قضايا الجدال اليومية والتي تطرح في كل وقت وحين .
2- هناك عدد من المسائل والتي تختلف فيها تركيا مع الاتحاد الأوربي ومن ضمنها المواقف الأوربية تجاه تطورات المسألة الكردية , فقد أدانت ألمانيا وبشدة سياسة الحكومة والجيش التركي حيال أكراد جنوب شرق الأناضول , وهذه المواقف هي مجرد عينات للتباين بين تركيا وأوربا , التي تريد تأسيس اتحاد منسجم مع بنيتها دينيا وفكريا و اقتصاديا , وان الأوربيين لا يريدون انضمام تركيا أليهم .
3- أن الخطوات التحديثية التي أقدمت تركيا على إجرائها لا تلغي أبدا واقع تركيا كونها بلد مسلم وله وشائج قربى ومصير طبيعية مع محيطهُ الإسلامي .
4- أن السماح بارتداء الحجاب في جميع المؤسسات الحكومية وليس في الجامعات فقط هو آمر تطالب به أكثر من 60% من أبناء الشعب التركي وهو حق من حقوقهم .
وهنا يمكن ملاحظة انه كلما تزايدت حدة الهجوم على المحجبات زاد عدد المحجبات في تركيا كما زاد بتمسك المحجبات بحجابهن , مما يدعو الحكومة التركية إلى دراسة هذه القضية وفق المصالح القومية مع مراعاة الموازنة بين مسألتين أولهما أن تركيا بلد ذو أغلبية مسلمة ولا يمكن بأي حال من الأحوال إبعاده عن محيط الإسلامي وفك ارتباطهُ وتاريخه البعيد والقريب , وثانيهما أن أوربا لا يمكن أن تقبل تركيا في صفوفها والتي ما تزال مصره على انتهاك بعض مبادئ حقوق الإنسان والحريات الشخصية للإنسان التركي .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

فاروق عمر فوزي وكتابه : تجربتي في الكتابة التاريخية بقلم : الأستاذ الدكتور إبراهيم خليل العلاف

  فاروق عمر فوزي وكتابه : تجربتي في الكتابة التاريخية الأستاذ الدكتور إبراهيم خليل العلاف أستاذ التاريخ الحديث المتمرس - جامعة الموصل أجا...