الأربعاء، 12 فبراير 2014

فائق حسن ..قلق فنان بقلم " الاستاذ سامي مهدي

ذكريات جانبية (8 )
******************

فائق حسن ..قلق فنان
بقلم " الاستاذ سامي مهدي

والفنان المعني هنا هو الراحل الكبير فائق حسن . وأكيد أن هذا الفنان ليست به حاجة إلى شهادة مني ، فهو كبير بفنه وبدوره الأكاديمي ، وهو أكبر وأشهر من أعرّفه أو أشهد له . كنت معجباً بفنه منذ صباي ، وكان ثاني اثنين أعجبت بهما في تلك الحقبة المبكرة من حياتي ، أما الآخر فهو الفنان جواد سليم .
تابعت معارضه الخاصة وزرت أغلبها ، وتوقفت عند لوحاته في المعارض المشتركة التي أقامتها " جماعة الرواد " ثم " جماعة الزاوية " من بعدها ، وكان يدهشني ذلك التوازن الفذ المنضبط بين اللون والشكل ( الفورم ) في أغلب لوحاته . وأحسب أن أول حوار صحفي مطول أجري معه هو الحوار الذي أجرته معه مجلة " ألف باء " بطلب مني أيام كنت رئيس تحريرها خلال السنوات 1972 – 1975 .
عام 1979 كنت مدير المركز الثقافي العراقي في باريس ، وكانت للمركز برامج ثقافية مدروسة تجتذب الكثير من الفرنسيين والعرب المقيمين في فرنسا ، وكنا نعلن عن الأساسي من فقراتها في بعض الصحف والمجلات الفرنسية ، وفي ملصقات كبيرة ( بوسترات ) تلصق في مناطق معينة من مناطق المدينة ، ولاسيما محطات قطار الأنفاق ( المترو ) لاجتذاب الزوار . وتضمن أحد هذه البرامج معرضاً للفن العراقي المعاصر ، فاقترحت اللجنة الاستشارية للمركز دعوة أحد الفنانين العراقيين الكبار لحضور حفل افتتاحه ، فقفز إلى ذهني فوراً اسم الفنان فائق حسن ، أولاً لمكانته الفنية الكبيرة ، وثانياً لمعرفته باللغة الفرنسية . فاقترحته على اللجنة ، فاتفقت معي دون نقاش لأنه كان معروفاً لدى أغلب أعضائها العرب والعراقيين .
وهكذا وجهنا إليه الدعوة عبر مرجعنا الرسمي وزارة الثقافة والإعلام ، وكانت الدعوة على نفقة المركز : سفراً وإقامة ، فقبلها الرجل . وقبل وصوله بيوم واحد حجزنا له غرفة في فندق باريسي حديث الإنشاء من فنادق الدرجة الأولى هو فندق " الكونكرد " ذو النجوم الخمس وأعددنا العدة لاستقباله في اليوم التالي في مطار " أورلي " الشهير .
وجاء الرجل ، جاء وبصحبته زوجته الفرنسية " سوزان كوتييه " فتقبلنا منه هذه المفاجأة بصمت ، ولم نحرجه قط . وكان في استقباله معاون مدير المركز ، وتم نقله وزوجته إلى الفندق . وفي مساء اليوم نفسه قمت بزيارته للسلام عليه والترحيب به ، ولشرح مهمته له ، ولم تكن هذه المهمة سوى حضور حفل الإفتتاح ، والتحدث ، إن رغب ، وإن سأله سائل ، عن الفنون التشكيلية في العراق ونهضتها الحديثة ، رغم أننا كنا قد أعددنا " مطويّاّ " عنها باللغتين العربية والفرنسية لتوزيعه على المدعوين لحفل الافتتاح ، وعلى الزوار في الأيام اللاحقة . وحين أعطيته نسختين من هذا " المطوي " أبدى إعجابه به ، ثم أعطيته رقم هاتفي في المركز ورقم هاتف مسكني وتركته بعد أن تمنيت له ليلة سعيدة . ولكنه سألني قبل أن أغادر الفندق عمّن سيتولى دفع تكاليف الإقامة ، فأوضحت له أن المركز هو الذي سيتحمل تكاليف إقامته وزوجته ، بما في ذلك تكاليف وجبات الطعام ، وأن مدة الإقامة هي أسبوع واحد ، كما جاء في كتاب الدعوة . ثم عاد وسألني : أمتأكد أنت مما تقول ؟ فضحكت وقلت طبعاً ، لأنني أنا مدير المركز ، وأنا المسؤول عن كل " فرنك " ينفقه أمام مرجعي الرسمي . فقال : ولكن لم هذا الفندق الفخم ؟ فأجبته : لأن مكانتك الفنية لا يليق بها إلا مثل هذا الفندق . فسكت ، ولكن يبدو أنه سكت على مضض .
في اليوم التالي افتتح المعرض ، وجئنا بالرجل ، ومعه زوجته ، قبل موعد الإفتتاح بقليل ، وكانت له في هذا المعرض ثلاث لوحات هي من مقتنيات الوزارة فوجيء بوجودها وفرح ، والمهم أنه أدى مهمته في حفل الافتتاح بأحسن مما توقعت ، وبقي حتى نهاية الحفل ، ولكنه سألني قبل أن نعيده وزوجته إلى الفندق عما إذا كنا سنحتاجه في الأيام التالية ، فأجبته بأنه حر حتى موعد مغادرته باريس ، وإن شاء أن يزورنا فأهلاً به ، وإن احتاجنا في شيء فنحن على استعداد لخدمته ، وما عليه إلا أن يتصل بي ويخبرني بما يريد . فقال ونحن نقف عند باب المركز : أريد أن أخبرك بأني حصلت على سلفة سفر من دائرتي ، فقلت : إذن تستطيع أن تعيد مبلغ السلفة إليها لدى عودتك ، ما دام المركز هو الذي سيتحمل نفقات إقامتك كما أخبرتك ، ولكن علامات القلق بقيت ظاهرة عليه . وأخيراً قال إنه سيغادر الفندق صباح اليوم التالي ويسافر إلى الجنوب لزيارة ذوي زوجته ، ورغم أنني كنت أعرف أن زوجته من مقاطعة " بريتاني " وليست جنوبية لم أناقشه ، بل قلت له : لك ما تختار ، ولكني أؤكد لك ، إن كنت ما تزال قلقاً ، أنني حصلت على موافقة الوزارة على تحمل نفقات سفرك وإقامتك كافة ، ورغم ذلك اختار الرحيل بهذه الحجة . وفي صباح اليوم التالي أرسلت إلى الفندق من يدفع نفقات إقامته ويقله إلى حيث يشاء ، ولكن من أرسلته عاد وقال إنه صرفه بعد دفع الحساب ورفض توصيله إلى أي مكان !
قبل أن ينتهي أسبوع إقامته بيوم واحد اتصل بي تلفونياً وشكرني على الدعوة ، فعرضت عليه أن أدعوه إلى عشاء ، ولكنه اعتذر ، فاتفقت معه على أن أقله من مكان إقامته إلى المطار لتوديعه وزوجته ، فزودني بعنوان فندق اكتشفت أنه فندق متواضع ( نجمتان ) يقع في شارع " غاريبالدي " الذي يبعد قليلاً عن سكناي .
بعد حوالي عشرين يوماً من عودته وصلنا كتاب رسمي من دائرته ، مع بريد الوزارة ، تسأل فيه عما تحمله المركز من نفقات إقامته وتطلب تزويدها بالوصولات ، فأجبناها بكتاب رسمي بأن ما تحمله المركز من هذه النفقات يقع ضمن مسؤولياته بوصفه الجهة الداعية ، راجين اعتبار القضية منتهية عند هذا الحد ، كما تقول لغة الكتب الرسمية ، وانتهت القضية فعلاً .
بعكس هذا دعونا مرة فناناً آخر في مجال آخر وقدمنا له أضعاف ما قدمناه للراحل فائق حسن ( استضافات رسمية وشخصية وجولات في متاحف المدينة ومعالمها الرئيسية ) ومع ذلك طلب مني أخيراً دفع مشترياته من الهدايا لأهله فدفعت ثمنها من جيبي الخاص ، وقلت له هذا بوضوح فلم يرف له جفن وكأنه ذو فضلٍ علي !





ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

الدكتورة نهال خليل يونس الشرابي مؤرخة عراقية موصلية ...............مع التحيات

  الدكتورة نهال خليل يونس الشرابي مؤرخة عراقية موصلية ...............مع التحيات ا.د.ابراهيم خليل العلاف استاذ التاريخ الحديث المتمرس - جامعة...