الربيع العالمي تحت أنامل الناس
محمد عارف*
حدث ذلك عندما أرسلتني جامعة
سانبيتربرج للتدرب على العمل الصحفي في صحيفة «أخباراليوم» في القاهرة، وأخبرني
زميلي المصري أن شقيقه ضابط المباحث حذّره من أنني تحت رقابة البوليس السري
أينما أذهب في مصر. شعورنا بالراحة والاطمئنان للتجسس علينا، أنا وزميلتي
الكندية «جيني» رسم خريطة السهرات في السيدة زينب، والحسين، ومقابر الإمام،
والشافعي، والأهرامات، والعوامات. ومع الفجر نسرح بزورق شراعي في «بحر» النيل.
ولو لم نكن طالبين مُعوزين لدعونا المخبر السري لمرافقتنا، بدلاً من تركه
ينتظرنا خائباً على الشاطئ.
شعور مماثل بالاطمئنان والبهجة
عاودني هذا الأسبوع عند تسرب المعلومات عن تنصت «وكالة الأمن القومي» الأميركية
على الهواتف، والتلصص على الرسائل، والصور، والفيديو، ومعلوماتنا المليونية
المحفوظة في الكمبيوتر، وفي «دروبوكس»، وحتى جلسات سمر عوائلنا المتناثرة حول
العالم عبر «سكايب» و«فيسبوك». ويعجبني الاسم الشاعري لبرنامج التجسس علينا،
«بريسم»، ويعني «موشور» بالعربية، وهو «موشور» في تمشيط معلومات تجمعها تسع
شركات إنترنت كبرى، بينها «مايكروسوفت» و«ياهو» و«جوجل» و«أبل» و«يوتيوب» التي
نستعمل أجهزتها وبرامجها، وتخدمنا حتى ونحن نائمون، واللعب مع أشباح المراقبين
مثير في الفضاء السبراني، وتحذيرات «ياهو» المهذبة بين حين وآخر بتغيير كلمة
السر شهادات تأمين ضد الأخطار.
وأنا واحد من مليارين ونصف المليار
مستخدم للإنترنت في العالم الآن، وكان عددنا أقل من 400 ألف في عام 2000، ومنذ
ذلك الحين حققت قارتنا آسيا القفزة الكبرى التي ضاعفت عدد مستخدمي الإنترنت من
100 ألف إلى أكثر من المليار حالياً. الربيع العالمي تحت أناملنا، وخفقات
أصابعنا على مفاتيح الكمبيوتر تعزف سيمفونية المعرفة والتواصل الإنسانيين، التي
لم يسمعها العالم من قبل. وكم تبدو سطحية مقارنة بمأزق واشنطن في معرفة ما نضمره
لها كالبحث عن أبرة في تل من القش، والأحرى القول البحث عن قشة في تل من الإبر.
والإبر مليار آسيوي يتابعون خلال عشر سنوات الأخيرة في شبكة الإنترنت جرائم
الحرب التي ارتكبتها واشنطن ولندن في بلدين آسيويين لا حول لهما ولا قوة؛
أفغانستان والعراق. ولا تعني الضجة القائمة حول الحرب السبرانية التي كانت محور
اجتماع الزعيمين الأميركي والصيني هذا الأسبوع سوى «عفاط على بلاط» حسب المثل
اللبناني.
والجدُّ في موقف الهزل كالهزل في
موقف الجد، حين تساءلت عميدة الكلية العسكرية الصينية عما تفعله 60 قاعدة عسكرية
تحيط الصين من كل الاتجاهات؟ طرحت السؤال في مؤتمر الأمن الدولي في شنغهاي أول
الشهر الحالي تعليقاً على اتهام وزير الدفاع الأميركي بكين بالتجسس السايبري.
و«طيور الأوز بيضاء والغربان سوداء، ولن تغير أيّ حجة ذلك»، حسب المثل الصيني.
وما بين الأوز والغربان ضاعت حجة أوباما على بكين بالتجسس وشن الهجمات
السبرانية. بيان اللقاء المشترك بين الزعيمين الأميركي والصيني لم يتضمن أي ذكر
للحرب السبرانية.
و«السايبر» كلمة إغريقية الأصل
تعني الضبط أو التسيير، وعالَم السايبر هو العالم الافتراضي الذي تقيمه شبكات
الإنترنت، وهو في الحقيقة الامتداد الرقمي لمستخدمي الإنترنت، أي أناي الرقمية،
و«أنوات» مليارين ونصف المليار من مواطني العالم السبراني. صحيفة «جارديان»
البريطانية التي نشرت الوثائق المسربة، نقلت عن مسؤول أميركي تصريحه المتحدي:
«إذا طوّر البشر القدرة على بناء زوارق، نبني نحن قوة بحرية، وإذا بنوا طائرات،
نبني نحن قوات جوية».
وماذا يمكنهم بناؤه إذا طوّر الناس
شباباً أميركيين في العشرينات يقومون بأكبر عمليتي فضح معلومات تجسسية على سكان
العالم؟ أدوارد سنودن (29)، الموظف السابق في وكالة «سي آي أي» الذي سرّب
المعلومات حول برنامج «بريسم»، غامر بحياته وعيشه المرفه حين فضح عمليات أعتى
منظمة تجسسية، «وكالة الأمن القومي» الأميركية، وضحى بمرتبه البالغ 200 ألف
دولار، ووظيفته المضمونة، وعائلته التي يحبها، وصديقته الجميلة التي تشاركه
العيش في منزل بهاواي، وذلك «لأنني لا أستطيع السماح لحكومة الولايات المتحدة
ببناء آلة تجسس تدمر الخصوصية، وحرية الإنترنت ومبادئ الحرية الأساسية للناس حول
العالم». وذكر سنودن أنه تطوع للحرب ضد العراق عام 2003 «لشعوري بأن واجبي
مساعدة البشر على التحرر من الاضطهاد». وسرعان ما زالت تصوراته عندما وجد «معظم
الذين كانوا يدربوننا لا يتوقفون عن الحديث عن قتل العرب، وليس مساعدتهم».
وفي طلب الغفران من ملايين
العراقيين والأفغان القتلى والجرحى والمشردين، قام المجند السابق في المخابرات
الأميركية في العراق برادلي ماننج (25 عاماً) بأكبر عملية تسريب أسرار في
التاريخ. هذا الصبي الحيي الصغير الحجم وضع في متناول الناس 700 ألف وثيقة سرية
للخارجية والمخابرات الأميركيتين، تتضمن الأدلة على ارتكاب قوات الولايات
المتحدة جرائم حرب في العراق وأفغانستان. وماننج الآن المثل الأعلى لحركة حرية
الحصول على المعلومات، وشبكات النشطاء المدافعين عنه تمتد من قاعدة ميريلاند،
حيث تجري محاكمته، وحتى ميدان البيت الأبيض في واشنطن، وعبر مواقع وشبكات
«فيسبوك» و«تويتر» حول العالم. وذكرت «نيويورك تايمز» أن النشطاء جمعوا مليوناً
وربع المليون دولار نفقات محامي الدفاع عنه، ولم يبرح أنصاره القادمون بسيارات
الباص من مناطق نائية مواقعهم، رغم الأمطار الغزيرة. هذا في الولايات المتحدة
حيث أغلبية المواطنين كانت تؤيد غزو العراق، فماذا عن الملايين الذين ناهضوا
الحرب في جميع القارات، وتحطمت قلوبهم كقلب ماننج الذي أعلن في محاكمته بأنه
سرّب الوثائق ليعرف العالم الأذى الذي سببه غزو قوات بلده للعراق. قال ماننج إن
أكثر ما روّعه شريط فيديو يصور قناصاً أميركياً يطلق من داخل المروحية شتائم
قذرة على عراقيين أبرياء، يقتنصهم وأطفالهم بالصواريخ.
وكما
يقول المثل الصيني: «أنت تعزف على نغمة واحدة فقط. عليك العثور على غيرها يمكن
أن تعلمك كيف تستخدم الثقوب الأخرى في مزمارك الذهني». وأظرف عزف صيني على
المزمار تحوير اسم «كوكا كولا» الذي ينطق بالصينية «كيكويكيلا»، ويعني «عض
الضفدعة»! ونصح خبراء اللغة الصينية بتحريف الاسم فأصبح «كوكوكولا»، ويعني
«السعادة في الفم»! وما أسعد من مذاق لحوم شركة «سميث فيلد» الأميركية التي
اشترتها الصين أخيراً مقابل خمسة مليارات دولار نقداً، وتحول الصينيون من مصدرين
للأغذية إلى مستوردين للأغذية الأميركية الفاخرة. وشتيمة «علي بابا» التي أطلقها
الغزاة الأميركيون على ضحاياهم العراقيين الذين يعتبرونهم حرامية، جعلها المزمار
الصيني عنوان أكبر شركة للتجارة عبر الإنترنت. مبيعات «علي بابا» العام الماضي
170 مليار دولار أميركي، أي أكبر من مجموع مبيعات أكبر شركتين أميركيتين للتجارة
عبر الإنترنت؛ «أمازون» و«إي باي». وأطلقت «علي بابا» هذا العام هاتفها الذكي
واسمه «عليٌ» (Aliyun)!
*مستشار في العلوم والتكنولوجيا
تاريخ النشر:
الخميس 13 يونيو 2013
http://www.alittihad.ae/
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق