قصيدة النثر
بقلم :الاستاذ سامي مهدي
وجه الصديق الاستاذ سنان احمد حقي عضو اتحاد كتاب الانترنت العراقيين رسالة عبر الفيسبوك الى الشاعر والكاتب الاستاذ سامي مهدي يسأله عن" قصيدة النثر" فأجابه بمقال جميل يسعدني اطلاعكم عليه وكما يأتي :
الصديق العزيز الأستاذ سنان حقي
تحياتي
وجواباً على سؤالك الذي وجهته إلي على صفحتي أمس ، أقدم لك هذه الملاحظات مع خالص الود :
_ قصيدة النثر أحد أشكال الكتابة الشعرية المهمة ، لأنها تنطوي على الكثير من خصائص الشعر ، ولاسيما لغته . وقد فرضت وجودها إلى جانب الأشكال الشعرية الأخرى ، شئنا أم أبينا ، وبذلك لم يعد مجدياً النقاش حول مدى شعريتها ، أو مدى مشروعيتها .
_ ولكن ينبغي ، في رأيي ، التمييز بين قصيدة النثر Prose poem والشعر الحر Free verse على صعيد الكتابة والنقد . فلكل شكل من هذين الشكلين تاريخه الخاص وتقنياته وتقاليده الكتابية . وهذا التفريق ضروري عندي ، لأن هناك التباساً في استخدام مصطلح قصيدة النثر . فكل ما يكتب اليوم من شعر غير موزون يحسب عليها ، وهذا خطأ في رأيي ، وهو خطأ ناجم عن جهل ، أو التباس ، أو تساهل ، في فهم المصطلح وترويجه . وأقول ، بتبسيط شديد ، إن الشعر الحر هو ما يكتب على الورق بصيغة أشطر على غرار قصيدة التفعيلة . أما قصيدة النثر فهي ما يكتب بسطور متصلة كالنثر العادي ، كالمقالات . فما كتبه توفيق صايغ ومحمد الماغوط مثلاً هو شعر حر ، وما كتبه أنسي الحاج في مجموعتيه ( لن ) و ( الرأس المقطوع ) تحديداً هو قصيدة نثر . وأغلب ما يكتب اليوم تحت عنوان قصيدة النثر هو شعر حر في واقع الأمر .
_ والجدل حول وجود الإيقاع في قصيدة النثر كان ، وما يزال ، جدلاً عقيماً ، فقد كتب فيه الكثير دون التوصل إلى نتيجة مقنعة . وفي رأيي أننا يجب أن نفرق بين نوعين من الإيقاع : إيقاع موسيقي ينتج عن تكرار وحدات صوتية معينة ( هي التفعيلات ) تكراراً منتظماً ، فهو إيقاع محسوس وقابل للقياس ، وإيقاع آخر مفترض على أساس أن كل نوع من أنواع الكتابة يخلق إيقاعه الخاص به ، وعلى القاريء أن يكتشف هذا الإيقاع إن كان يهمه . إيقاع قصيدة النثر هو من هذا النوع ، إيقاع افتراضي ، إي ليس إيقاعاً صوتياً ، وعلينا أن نفترض وجوده ونكتشفه . فهو كثياب الإمبراطور العاري .
_ كتاب الشعر الحر و قصيدة النثر ( الأوائل ) حاولوا تعويض إيقاع الوزن ببدائل أخرى . توفيق صايغ حاول تعويضه بإيقاعات صوتية أخرى ، عن طريق تطعيم قصيدته بأبيات موزونة بمختلف الأوزان ، وبأنواع من التقفيات والسجعات والجناسات والطباقات ، وقد قلده جبرا إبراهيم جبرا في ذلك ، وعدّ هذا موسيقى أوركسترالية . في حين لجأ آخرون إلى خلق أنواع من التناظرات بين المقاطع ، أو بين الجمل ، وبعض الصياغات اللغوية ، وبعض التكرارات ، وعدوا ذلك إيقاعات . أما الأجيال اللاحقة فقد تخلت عن هذه البدائل ، واكتفت بالإيقاع الافتراضي الذي يتخلق في أثناء عملية الكتابة ، وبذلك يكون لكل قصيدة إيقاعها ، وعلى القاريء الحاذق أن يكتشف هذا الإيقاع .
_ إذا استثنينا أدونيس ، فكل كتاب الشعر الحر وقصيدة النثر ( الأوائل ) كانوا أحد اثنين ، إما جاهلاً بالوزن جهلاً تاماً كمحمد الماغوط وأنسي الحاج ، أو أنه لم ينجح في كتابة الشعر الموزون النجاح الذي يريده ، النجاح الذي يميزه عمن سبقه كتوفيق صايغ وسركون بولص . أما الأجيال اللاحقة فقد تلقت الدعوة إلى التخلي عن الوزن بإقبال واسع ، لأنها تخلصت من عبء تعلم الأوزان الشعرية وصعوبات الكتابة بها ، وشعرت بأن التخلي عنها يحررها من قيود ثقيلة مفروضة عليها ويمنحها ( ميزة الاختلاف ) عمن سبقها . وبذلك التبست الأمور ، واختلط الحابل بالنابل ، وضاع رأس الشليلة ، كما يقولون ، حتى أصبح ( شاعراً ) كل من يستطيع أن يكتب إنشاء جميلاً ، أو يأتي بمفارقة ساخرة ، أو شطحة طريفة ، أو فكرة حاذقة ، وكانت النتيجة طوفاناً من الكتابات الإنشائية والخواطر الأدبية السقيمة المحسوبة على الشعر وهو منها براء .
_ أما أنا فأرى أن الشاعر حر في اختيار الشكل الذي يعتقد أنه يبدع فيه ، وشرطنا الوحيد عليه هو أن يبدع في الكتابة بالشكل الذي اختاره . ولكن الشعر الذي يتخلى عن الوزن هو شعر ناقص في رأيي ، تنقصه موسيقى الوزن ، لأن الوزن ضروري فيه ، فهو يؤدي وظائف مهمة في القصيدة : إيقاعية ودلالية وتنظيمية ، وهو ليس قيداً خارجياً إلا عند غير المتمرسين ، وعند من يجهلونه أويستصعبونه . لقد رافق الوزن الشعر منذ نشأته ، وبه تميز واختلف عن غيره من فنون القول . أقول هذا مع أنني كتبت الكثير من الشعر غير الموزون ، حتى لا تكاد مجموعة من مجموعاتي الشعرية تخلو منه منذ عام 1980 حتى اليوم ، فأنا أكتب القصيدة كما تأتيني : بوزن ، أو بدون وزن ، بقافية موحدة ، أو بقواف متنوعة ، أو مدورة بلا قافية . وهذا يعطيني حرية أكبر ، وتنوعاً أكثر ، في الكتابة .
_ اليوم ، وبعد أكثر من نصف قرن ، من إعلان ولادة قصيدة النثر في محيطنا العربي ، أتساءل أحياناً : هل أنجبت حركة قصيدة النثر شاعراً كبيراً عدا سركون بولص في مجموعتيه الأولى والثانية ؟ وما رصيدنا الشعري ، الشعري بحق ، من هذه الحركة ؟ أظن أن حركة قصيدة النثر بها اليوم حاجة إلى دراسة جديدة وشاملة ، دراسة نقدية معيارية ، وحيادية ، بل أكثر من دراسة ، تعيد تقييمها وتضع أمورها وأمور شعرائها في نصابها الصحيح ، وتعطي كل ذي حق حقه ، بعيداً عن أهواء التجمعات الضيقة والمنافع المتبادلة في ما بين أفرادها .
مع خالص مودتي
بقلم :الاستاذ سامي مهدي
وجه الصديق الاستاذ سنان احمد حقي عضو اتحاد كتاب الانترنت العراقيين رسالة عبر الفيسبوك الى الشاعر والكاتب الاستاذ سامي مهدي يسأله عن" قصيدة النثر" فأجابه بمقال جميل يسعدني اطلاعكم عليه وكما يأتي :
الصديق العزيز الأستاذ سنان حقي
تحياتي
وجواباً على سؤالك الذي وجهته إلي على صفحتي أمس ، أقدم لك هذه الملاحظات مع خالص الود :
_ قصيدة النثر أحد أشكال الكتابة الشعرية المهمة ، لأنها تنطوي على الكثير من خصائص الشعر ، ولاسيما لغته . وقد فرضت وجودها إلى جانب الأشكال الشعرية الأخرى ، شئنا أم أبينا ، وبذلك لم يعد مجدياً النقاش حول مدى شعريتها ، أو مدى مشروعيتها .
_ ولكن ينبغي ، في رأيي ، التمييز بين قصيدة النثر Prose poem والشعر الحر Free verse على صعيد الكتابة والنقد . فلكل شكل من هذين الشكلين تاريخه الخاص وتقنياته وتقاليده الكتابية . وهذا التفريق ضروري عندي ، لأن هناك التباساً في استخدام مصطلح قصيدة النثر . فكل ما يكتب اليوم من شعر غير موزون يحسب عليها ، وهذا خطأ في رأيي ، وهو خطأ ناجم عن جهل ، أو التباس ، أو تساهل ، في فهم المصطلح وترويجه . وأقول ، بتبسيط شديد ، إن الشعر الحر هو ما يكتب على الورق بصيغة أشطر على غرار قصيدة التفعيلة . أما قصيدة النثر فهي ما يكتب بسطور متصلة كالنثر العادي ، كالمقالات . فما كتبه توفيق صايغ ومحمد الماغوط مثلاً هو شعر حر ، وما كتبه أنسي الحاج في مجموعتيه ( لن ) و ( الرأس المقطوع ) تحديداً هو قصيدة نثر . وأغلب ما يكتب اليوم تحت عنوان قصيدة النثر هو شعر حر في واقع الأمر .
_ والجدل حول وجود الإيقاع في قصيدة النثر كان ، وما يزال ، جدلاً عقيماً ، فقد كتب فيه الكثير دون التوصل إلى نتيجة مقنعة . وفي رأيي أننا يجب أن نفرق بين نوعين من الإيقاع : إيقاع موسيقي ينتج عن تكرار وحدات صوتية معينة ( هي التفعيلات ) تكراراً منتظماً ، فهو إيقاع محسوس وقابل للقياس ، وإيقاع آخر مفترض على أساس أن كل نوع من أنواع الكتابة يخلق إيقاعه الخاص به ، وعلى القاريء أن يكتشف هذا الإيقاع إن كان يهمه . إيقاع قصيدة النثر هو من هذا النوع ، إيقاع افتراضي ، إي ليس إيقاعاً صوتياً ، وعلينا أن نفترض وجوده ونكتشفه . فهو كثياب الإمبراطور العاري .
_ كتاب الشعر الحر و قصيدة النثر ( الأوائل ) حاولوا تعويض إيقاع الوزن ببدائل أخرى . توفيق صايغ حاول تعويضه بإيقاعات صوتية أخرى ، عن طريق تطعيم قصيدته بأبيات موزونة بمختلف الأوزان ، وبأنواع من التقفيات والسجعات والجناسات والطباقات ، وقد قلده جبرا إبراهيم جبرا في ذلك ، وعدّ هذا موسيقى أوركسترالية . في حين لجأ آخرون إلى خلق أنواع من التناظرات بين المقاطع ، أو بين الجمل ، وبعض الصياغات اللغوية ، وبعض التكرارات ، وعدوا ذلك إيقاعات . أما الأجيال اللاحقة فقد تخلت عن هذه البدائل ، واكتفت بالإيقاع الافتراضي الذي يتخلق في أثناء عملية الكتابة ، وبذلك يكون لكل قصيدة إيقاعها ، وعلى القاريء الحاذق أن يكتشف هذا الإيقاع .
_ إذا استثنينا أدونيس ، فكل كتاب الشعر الحر وقصيدة النثر ( الأوائل ) كانوا أحد اثنين ، إما جاهلاً بالوزن جهلاً تاماً كمحمد الماغوط وأنسي الحاج ، أو أنه لم ينجح في كتابة الشعر الموزون النجاح الذي يريده ، النجاح الذي يميزه عمن سبقه كتوفيق صايغ وسركون بولص . أما الأجيال اللاحقة فقد تلقت الدعوة إلى التخلي عن الوزن بإقبال واسع ، لأنها تخلصت من عبء تعلم الأوزان الشعرية وصعوبات الكتابة بها ، وشعرت بأن التخلي عنها يحررها من قيود ثقيلة مفروضة عليها ويمنحها ( ميزة الاختلاف ) عمن سبقها . وبذلك التبست الأمور ، واختلط الحابل بالنابل ، وضاع رأس الشليلة ، كما يقولون ، حتى أصبح ( شاعراً ) كل من يستطيع أن يكتب إنشاء جميلاً ، أو يأتي بمفارقة ساخرة ، أو شطحة طريفة ، أو فكرة حاذقة ، وكانت النتيجة طوفاناً من الكتابات الإنشائية والخواطر الأدبية السقيمة المحسوبة على الشعر وهو منها براء .
_ أما أنا فأرى أن الشاعر حر في اختيار الشكل الذي يعتقد أنه يبدع فيه ، وشرطنا الوحيد عليه هو أن يبدع في الكتابة بالشكل الذي اختاره . ولكن الشعر الذي يتخلى عن الوزن هو شعر ناقص في رأيي ، تنقصه موسيقى الوزن ، لأن الوزن ضروري فيه ، فهو يؤدي وظائف مهمة في القصيدة : إيقاعية ودلالية وتنظيمية ، وهو ليس قيداً خارجياً إلا عند غير المتمرسين ، وعند من يجهلونه أويستصعبونه . لقد رافق الوزن الشعر منذ نشأته ، وبه تميز واختلف عن غيره من فنون القول . أقول هذا مع أنني كتبت الكثير من الشعر غير الموزون ، حتى لا تكاد مجموعة من مجموعاتي الشعرية تخلو منه منذ عام 1980 حتى اليوم ، فأنا أكتب القصيدة كما تأتيني : بوزن ، أو بدون وزن ، بقافية موحدة ، أو بقواف متنوعة ، أو مدورة بلا قافية . وهذا يعطيني حرية أكبر ، وتنوعاً أكثر ، في الكتابة .
_ اليوم ، وبعد أكثر من نصف قرن ، من إعلان ولادة قصيدة النثر في محيطنا العربي ، أتساءل أحياناً : هل أنجبت حركة قصيدة النثر شاعراً كبيراً عدا سركون بولص في مجموعتيه الأولى والثانية ؟ وما رصيدنا الشعري ، الشعري بحق ، من هذه الحركة ؟ أظن أن حركة قصيدة النثر بها اليوم حاجة إلى دراسة جديدة وشاملة ، دراسة نقدية معيارية ، وحيادية ، بل أكثر من دراسة ، تعيد تقييمها وتضع أمورها وأمور شعرائها في نصابها الصحيح ، وتعطي كل ذي حق حقه ، بعيداً عن أهواء التجمعات الضيقة والمنافع المتبادلة في ما بين أفرادها .
مع خالص مودتي
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق