الحياة الاجتماعية في ولاية الموصل 1515 -1918
ا.د.ابراهيم خليل العلاف
استاذ التاريخ الحديث -جامعة الموصب
مقدمـة :
بالرغم من الاهتمام الكبير الذي ظهر في السنوات الأخيرة بالدراسات العثمانية ، إلاّ أن التاريخ الاجتماعي للوطن العربي لم ينل بعد ما يستحقه من اهتمام . ويعد بحثنا هذا محاولة لتأشير بعض الملامح الرئيسية للحياة الاجتماعية في ولاية الموصل ومصادر وثائقها في الفترة الواقعة بين بدء السيطرة العثمانية عليها سنة 1515 وخروج العثمانيين منها أواخر الحرب العالمية الأولى . ومما يلحظ أن الباحث في التاريخ الاجتماعي يواجه صعوبة كبيرة عند تناوله هذا الموضوع ، ذلك أن مصادر الوثائق الخاصة بالحياة الاجتماعية عديدة ومتنوعة ومتناثرة ، كما أنها لم تستخدم بعد بشكل فعلي من قبل الباحثين والمؤرخين ( ) .
يتألف بحثنا من أربعة أقسام ، فضلاً عن المقدمة ، يتناول القسم الأول الأهمية الجغرافية والستراتيجية والاقتصادية لولاية الموصل . أما القسم الثاني فيتناول طبيعة المجتمع الموصلي المتميز بتعدد قومياته وأديانه ومذاهبه . ويتابع القسم الثالث الأنشطة الاجتماعية في الولاية ، والمتمثلة بالمؤسسات الحرفية والدينية وتقاليد السطان في أزياءهم وأعيادهم. وخصص القسم الأخير لدراسة وضع المرأة الموصلية خلال الفترة موضوعة البحث .
حدث انقلاب في ستراتيجية التوسع العثماني في عهد السلطان سليم الأول ( 1512 ـ 1520 ) إذ توقف الزحف العثماني على حساب الغرب الأوربي ،أو كاد واتجه نحو الوطن العربي( )، ومهما تعددت الآراء واختلفت في تعليل هذه الظاهرة ، فإن تأسيس الدولة الصفوية في إيران كان عاملاً رئيساً في ذلك . فالغزو العثماني للوطن العربي لم يكن إلاّ مرحلة من مراحل الصراع بين الدولتين العثمانية والصفوية الفارسية بقصد الاستحواذ على منطقة الشرق الأدنى ( ) .
ولقد قادت الأحداث التي نجمت عن معركة جالديران سنة 1514 وانتصر فيها العثمانيون على الفرس إلى دخول الموصل في حوزة العثمانيين سنة 1515 . وتعد الموصل أو مدينة عربية سيطر عليها العثمانيون مثلما كانت آخر مدينة خرج منها الجيش العثماني في أواخر الحرب العالمية الأولى 1918 ، وكان لموقع الموصل ولطبيعتها الجغرافية آثاراً واضحة في مجرى تاريخها السياسي والحضاري ذلك أنها تقع عند تقاطع الطرق التي تربط بين إيران والأناضول وسوريا ( ) .
وقد اهتم العثمانيون بولاية الموصل لأهمية موقعها الأستراتيجي ولعلاقة ذلك بالتطورات الاقتصادية التي كانت تشهـدها المنطقة آنذاك ، وخاصةً فيما يتعلق بتجارة الحرير . فالموصل تشكل طريقاً مهماً لانسياب هذه التجارة الفارسية التي كانت تمر من تبريز إلى أرضروم ثم أماسيا فالأناضول ، فتحولت التجارة إلى حلب ومنها إلى الأسكندرونة ، وهذا السبب أعطى الموصل أهمية بالغة بحيث أصبحت مسيطرة على هذا الطريق المهم بالنسبة للتجارة الفارسية،ومن الطبيعي أن تصبح تجارة الحرير الفارسي تحت رحمة العثمانيين ، وأصبح بالإمكان التحكم بهذا الطريق وحرمان الفرس من مرور تجارتهم من خلاله، خاصةً وأنّ إيران كانت تعتمد تجارة الحرير في صادراتها إلى الغرب الذي يقوم بمقابلتها بالحديد والنحاس كمواد رئيسية في ستراتيجية تلك الفترة ، وكان السلطان سليم يهدف إلى الحيلولة دون أن ينال الإيرانيون عدة الحرب،وكذلك من خلال منع تجارة الحرير وتخفيض مدخولات إيران ومنعها من تحقيق أطماعها التوسعية ( ) .
ولقد أثّـر الحصار التجاري الذي فرضـه العثمانيون على إيران بعد استيلائهم على مواضع وحدود ومسالك ديار بكر ـ الموصل التي كانت تحظى بالخطوط الستراتيجية الفعّالة والمهمة . كما تمَّ للعثمانيين بعد ذلك التحكم في السيطرة على مسالك أخرى تقطع العراق وصولاً إلى الخليج العربي الذي يعد الباب الطبيعي الجنوبي للمسلك العمودي ، في حين كانت حلب هي النهاية الرئيسة للمسلك الأفقي المتمثل بتبريز ـ أرضروم ، أما الموصل فقد بقيت مستمرة في علاقاتها الاقتصادية بمختلف الأقاليم،ومحتفظة بنافذتها المفتوحة نحو الشرق والغرب لستراتيجتها وتحكمها بالمسالك الأفقية والعمودية حتى فتح قناة السويس في سنة 1869 ، وكاد ينعدم مسلكها الأفقي مع الشام والأناضول ، أما مسلكها العمودي نحو بغداد ـ البصرة ، فقد ظلّ قائماً حتى يومنا هذا … ( ) .
أوضاع الموصل الاقتصادية حتى أوائل القرن العشرين :
لم تكن الموصل حين سيطـر عليها العثمانيون سنة 1515 أكبر من " بلدة صغيرة مسورة ، ولم تكن حسنة العمران ، ولا تحتفظ إلاّ ببقية شهرتها التجارية القديمة … ولم يعرف الكثير عن أحوالها الداخلية ، غير عدم استقرار أحوال حكومتها " ( ). إلاّ أن الموصل بعد سيطرة العثمانيين عليها ، دخلت مرحلة جديدة من تاريخها ، إذ أصبحت مركزاً لأهم الولايات العربية واتخذت قاعدة متقدمة لضرب الوجود الإيراني من العراق بأكمله ( ) ، وفي النصف الأول من القرن السابع عشر، أصبحت الموصل ولاية قائمة بذاتها ، ولم تتخذ شكلها الاداري النهائي إلاّ في سنة 1879 حين أصبحت تضم سنجقي ( لوائي ) كركوك والسليمانية ، فضلاً عن سنجق الموصل نفسه ، تحدها من الشمال ولايتا وان وديار بكر ومن الشرق مملكة فارس ومن الغرب سنجق دير الزور ومن الجنوب ولاية بغداد ، وقد بلغت مساحتها حوالي ( 91.000 ) كيلو متاً مربعاً ( ) .
ومنذ عهـد السلطان سليمان القانوني ( 1520 ـ 1566 ) طبّق فيها نظام الاقطاع العسكري ، إذ قسمت إلى وحدات اقطاعية بالدرجات الثلاث المعروفة خاص وتيمار وزعامت ( )،وتكشف لنا أعمال السلاطين العثمانيين الأوائل عن طبيعة نظرتهم إلى الأقطار التي تقع تحت سيطرتهم ، والتي تقوم على أساس " اقرار الأوضاع القائمة فعلاً مع محاولة الاستفادة من هذا الواقع إلى أقصى حد ممكن ".ونظراً لظروف الموصل المتميزة في وفرة أمطارها ، وقرب الأراضي الزراعية من الادارة المركزية فقد اتبع فيها العثمانيون الأسلوب الاقطاعي ( ) ، أما في سائر أرجاء العراق الأخرى ، فإن الأرض ظلّت في حوزة مالكيها المحليين ، كما امتدت إلى أقصى الشرق من الولاية بضع مشيخات أو إمارات كردية منفصلة سيطر شيوخها على مناطق شاسعة من الأراضي يتوارثونها جيلاً بعد جيل ويتولى فيها شيوخ محليون جباية الإيرادات وتسليمها إلى الحكومة . ورغم بداوة المجموعات القبلية الكرددية كالجاف والهماوند ، إلاّ أنها كانت تحت حكم " ملاكين " ينتمون إلى سلالات اقطاعية ذات منشأ ديني أحياناً . وكان اندماج الكردي بالأسلوب الإقطاعي العثماني قائماً على اعتبار أن رؤساء تلك الأسر يعينون ( سنجق بيكات ) تحت سلطة باشا ( والي ) الموصل لقاء خدمات عسكرية شخصية ( ) .
غير أن الأسلوب القبلي ، في التصرف بالأرض في هذه الجبهات من ولاية الموصل ، كان يبدو أكثر وضوحاً من الأسلوب الاقطاعي ، فلم يكن هناك زعامات او تيمارات مستقلة عن الخاص ، لأن الأراضي كانت تعود إلى الأسر الحاكمـة ، ولم يكن جمع الضرائب يتم على أساس الزعامة او التجار ، وإنما وفق أسلوب الالتزام مدى الحياة أو ما يسمى بـ " المالكانة ". وقد بلغت ممتلكات بعض الشيوخ أحياناً عشرات القرى ( ) .
وبالرغم من أن البيئة القبلية كانت هي السائدة في التنظيم الاجتماعي في ولاية الموصل ، إلاّ أنه كان هناك ثمة خلاف بين البيئة القبلية الكردية والبيئة القبلية العربية ، فالتنظيم الاجتماعي الكردي يعد أكثر تأثراً بالأسلوب الاقطاعي مقارنة بالتنظيم الاجتماعي العربي ، فالأغا الكردي يعد ملاك الأرض ، ولم يكن الفلاحون إلاّ مستأجرين عنده ، في حين عرف عن القبيلة العربية المساواة في مسألة ملكية الأرض والتصرف بها ( ) .
لقد عاشت ولاية الموصل حتى أوساط القرن التاسع عشر في حالة من الفوضى والاضطراب في أوضاعها الاقتصادية والاجتماعية ، ولم يجرِ فيها أي اصلاح ملحوظ . كما فشلت الحكومة في توطيد الأمن وتوطين العشائر ، واقتصرت جهودها على ارسال الحملات التأديبية للعشائر العربية والكردية . إلاّ أن الحكومة العثمانية اتخذت بعد ذلك سلسلة من التدابير الاصلاحية تمثلت بمجهودات مدحت باشا ( 1869 ـ 1872 ) الذي عيّن والياً على بغداد وزوّد بصلاحيات واسعة لتنفيذ اصلاحاته في الولايات الثلاث بغداد ، الموصل ، البصرة . ويعد نظام الطابو ، أهم ما يلفت النظر في أعمال مدحت باشا الاقتصادية ، وكان الهدف الرئيس من هذا النظام محاولة إيجاد حل لمشكلة العشائر ووضع حد لتمرداتها المستمرة وتحويل أفرادها إلى مواطنين مستقرين وذلك بتوفير سبل العيش وتحسين وسائل الري ( ) . وقد أثمرت سياسته في أماكن متعددة ، فاستقر رئيس قبائل شمر الجربا فرحان بن صفوك في منطقة الشرقاط فَمُنح لقب باشا وأصبح واسطة لاسكان البدو افراد عشيرته ، وأخذ يتسلم راتباً من الدولة وزار العاصمة استانبول ( ) .
لقد أدت سياسة مدحت باشا إلى أن يتحول الشيوخ إلى ملاكين للأراضي ، ولم تعد العلاقات داخل القبيلة تعتمد على المساواة بين أفرادها ، بل أصبح مقدار ما يملك الشخص المعيار الأساس للتمييز بينهم ( ) .
ولم يكن الانتقال من البداوة إلى الاستقرار ، سوى ازدياد نفوذ الشيوخ الاقتصادي والسياسي ، وظهور فئات ثريـة كان رفاهها متأتيـاً مـن عمق الاستغلال الأقطاعي للفلاحين ، فحدث بذلك انقلاب في طبيعة العلاقات الاجتماعية داخل القبيلة ،وتعاون رؤساء العشائر وأثرياء المدن في الاستحواذ على كثير من الأراضي الزراعية… فعلى سبيل المثال كان شيخ شمر يزرع منطقة نجمة بالقرب من الشورة جنوبي الموصل قبل الحرب العالمية الأولى بالاشتراك مع أحد أثرياء الموصل ( ) .
لقد أدى تطبيق سياسة الطابو إلى حصول أشراف المدن والأغوات الأكراد وبعض شيوخ العشائر على معظم الأراضي … وتعلل دورين وارنر سكوت الحكومة العثمانية عن تسجيل الأراضي والقرى الكردية بصورة خاصة بأسماء الأغوات والمختارين خلافاً لِما نصَّ عليه قانون الأراضي من عدم تسجيل القرى باسم شخص واحـد ، إلى رغبة الحكومة في الإبقاء على استتباب الأمن في تلك المناطق ( ) . وهكذا تحول الفلاحون إلى مجرد مؤجرين ، وتم هذا في الوقت الذي كانت فيه الروابط العشائرية تأخذ بالانحلال ، وحيث أخـذت الروح التجارية تنتشـر في المجتمع العشائري المتصف بالاكتفاء الذاتي ( ) .
أما الأراضي التي ظلّت أميرية صرفة ، فقد أُجِّرَتْ بالمزايدة ، إلى من يدفع أكثر من غيره ،وبهذه الطريقة انتزعت من أيدي فلاحيها الفعليين وانتقل بها إلى أيدي الأغوات ووجهاء المدن ، فقد رست على سيبيل المثال ، معظم الأراضي التي كانت لعشيرة ( دزئي ) شرق كفري وغربيها على رؤساء عشائر الجاف وبازيان والسادة ( ) . كما نجحت أسرة شيوخ البرزنجة ( ) في الاستحواذ على معظم القرى والبساتين المحيطة بالسليمانية مستفيدة من مكانتها الدينية وصلة رؤسائها بالحكومة وبلغت القرى التي دخلت في حوزتهم حوالي ( 60 ) قرية ببدل زهيد لا يساوي عشر معشار أثمانها الحقيقية ( ) .
أما مناطق انتشار اليزيدية في سنجار والشيخان فقد اكتسب ( المير ) وهو رئيس اليزيدية الديني والدنيوي مكانة كبيرة أصبح بواسطتها يستولي على نسبة معينة من المحصول والماشية من كل فلاح ( ) . كما كان يلزم أتباعه بجمع مبالغ كبيرة لحساب مزار الشيع عَديّ بن مسافر الأموي ( ) ، هذا بالإضافة إلى أن العديد من قرى اليزيديين دخلت في أيدي الملاكين الموصليين ، فقد أصبح أحدهم يملك ما بين ( 50 ـ 3 ) قرية ( ) .
ولقد استولى أغوات تلعفر على معظم الأراضي ( )،كما دخلت بعض قرى زاخو وعقرة والزيبار في أيدي الملاكين بأساليب عديدة يتعلق معظمها بطريقة تسجيل الأراضي ، أو اغراق الفلاحين بالديون ، أو حين يعجز بعض الفلاحين عن دفع الضرائب ، فيلجأ إلى أحد الوجهاء فيطلب حمايته ، بعد أن يفرغ عليه أرضه بدل هذه الحماية ، أو أن يملك الوجيه الثري جزءاً صغيراً من قريـة ثم يعمل علـى وضعها في( الشـيوع ) ويطرد أصحابها
عنها ( ) .
لقـد أصبح الفلاحون من جـراء ذلك بين نارين ، نـار الحكومة ونار الملاكين ، فقد كانت بدلات الالتزام وحصة المستأجرين الجدد تجبى بصعوبة كبيرة بسبب المقاومة التي يبديها الفلاحون، لهذا أصبحت الاغارة على القرى بقوات ( الجندرمة ) لتحصيل الضرائب الحكومية أو حصة المستأجرين بالقوة أمراً مألوفاً ، فقد كانت ثمة قوة رئيس عشيرة الجاف الخاصة من الفرسان والمسماة ( بشت ماله ) ( ) ، مستعدة للإغارة على أية مجموعة من العشيرة تعصي أوامره في دفع الضرائب . زيادة على ذلك ، كان لرئيس العشيرة ضرائبه الخاصة به أمثال ضريبة ( دوخة ) ( ) و ( سبورانه ) ( ) و ( الديوان ) ( ) ، وتزداد هذه الضرائب لتصبح مرهقة للفلاحين في بعض القرى ، إلى جانب ذلك مارست بعـض الاتحادات القبليـة الكرديـة كاتحاد الهماوند دورها في الحصول على الأراضي ، فقد كوفئ زعماء الهماوند بعد مساهمتهم في حرب الدولة العثمانية مع روسيا ( 1877 ـ 1878 ) بتوسيع أراضيهم في منطقة بازيان ( ) .
كما كانت هناك الأراضي السنية ، التي تعود للسلطان عبد الحميد الثاني ( 1876 ـ 1909 ) وكان لها ادارة خاصة ، وقد شملت مساحات واسعة قرب مدينة الموصل والسهول الواقعة بين الزاب الأعلى والزاب الأسفل ، ومناطق ديلين ومالوان وباقره جوفي السليمانية ، وأراضي واسعة في قضاء مخمور ( ) ، وكانت حالة الفلاحين فيها أحسن من حال سائر الفلاحين في العراق ،إذ كان مستأجروها يحصلون على نصف المحصول ، ويضمنون في حالة قلّـة المحصول أن يحصلوا على بعض التعويضات والمساعدات والسلف ، كما كان فلاحو هذه الأراضي معفوين من الخدمة العسكرية … وقد بقيت هذه الأراضي ، من الناحية العملية تحت التصرف الفعلي للزراع ، وكانوا يدفعون حصتي الطابو والحكومة معاً إلى الادارة السنية وبنسبة 20./. من الحاصل لكل من الحصتين ( ) . ومع أن الأراضي السنية كانت أفضل الأراضي في العراق ، وكانت وارداتها السنوية تزيد على مئات الألوف من الليرات العثمانية، إلاّ أنها فقدت هذه الامتيازات بعد ثورة 1908 فامتدت إليها يد الاهمال وأخذت أحوال فلاحيها بالتدهور ( ) .
أما القـرى الموقوفة على التكايا وأصحاب المراقد ، فقد كان ضررها أشد من الملكية نفسها ، إذ يجوز أن تتحول الملكية أو تزول ويطلق الفلاحون من الأسر ، ولكن الأراضي الوقفية ، يبقى أهلها في حالة العبودية مدى الدهر ( ) .
ومما يلفت النظر أن يحتفـظ المسيحيون في القـرى المحيطة بمدينة الموصل بأراضيهم ،وسط هذا كله، فقد تمكنوا من ابعادها عن أيدي الملاكين الموصليين ، وربما يرجع ذلك إلى مجهودات بطاركتهم وأساقفتهم،فضلاً عن استفادتهم من مبدأ حماية الدول الأوربية لهم ، خاصة أولئك الذين يعتنقون المذهب الكاثوليكي ( ) .
نتيجة لتدفـق رؤوس الأموال الأجنبية نحـو الموصل واتجاه التجار الأوربيين إلى أن يجعلوا العراق كله للخامات ، وسوقاً لتصريف بضائعهم ، محاولين ربط اقتصاده باقتصاد السوق العالمية، ازداد الطلب على المنتوجات الزراعية والحيوانية ، وتحت تأثير ضغط الملاكين الجدد اتجه الاقتصاد على العموم من اقتصاد طبيعي يسد الحاجة المحلية إلى اقتصاد التسويق القائم على الربح . وتعد الموصل ، أسرع من باقي مناطق العراق الأخرى ، في تطور العلاقات الاقتصادية والاجتماعية الجديدة ، فقد كثر الاقبال على زيادة المساحات المزروعة في جنوبي سنجار ، والأقسام الغربية من المنطقة الكردية ، ولعل ذلك يرجع إلى أهمية موقع الموصل وكونها سوقاً للمنتوجات الزراعية والحيوانية ، فهي ملتقى طرق ، كما سبق أن قدّمنا وتضم مدناً تجارية مهمة كالموصل والسليمانية وكركوك ( )، وكذلك لظروفها الزراعية المتميزة ، وكان لعدم شمول ولاية الموصل بالارادتين السنيتين اللتين ( ) منعتا انثقال الأراضي بالطابو في ولايتي بغداد والبصرة ، دور كبير في تحول الفلاحين من مالكين للأرض إلى مستأجرين . ولقد شدد الملاكون ، على الفلاحين من أجل زيادة الانتاج الزراعي ، على الرغم من عدم تقدم وسائل الانتاج التي ظلّت بدائية بسيطة حتى أواخر العهد العثماني ( ) .
لقـد ساعدت التطورات الجديدة تلك على احـداث تغيير في علاقات الانتاج ، وإيجاد روابط جديدة بالسوق الخارجية وأسهمت في ذلك عوامل أخرى داخلية وخارجية ، فبعد افتتاح قناة السويس سنة 1869 برزت ظاهرة نشوء واتساع تجارة التصدير إلى أوربا ، وأصبح لتجار الموصل فعاليات مهمة في مجال التصدير والاستيراد ( ) . وساهمت البنوك في تسهيل عملية التعامل المصرفي ، وكان لهـذه النشاطات أثر كبير في نشوء فئة برجوازية تجارية جديدة عملت على تنظيـم نفسها داخل ما سمي بـ " تجارت اورطه سي" أي غرفة التجارة ( ) ، وكانت هذه الفئة على صلة بالأوساط الاقطاعية المحلية وظهر هذا واضحاً فيما بعد ،حيث أن العوائد الاقتصادية في الموصل حتى أواخر الحرب العالمية الأولى ظلّت مقتصرة على " عوائل قليلة العـدد كثيرة المال " ( )، ومن هؤلاء آل الصابونجي وآل العمري وآل الجادر وآل خياط في الموصل وآل بابان في السليمانية وآل نفطجي في كركوك . وقد أخذت هذه الفئات تحاول أن تثبت وجودها وتعبر عن واقعها بشكل أو بآخر ، وكان كل تغيير في ذلك التعبير يعتمد إلى حد كبير على مدى تطورها ، خاصةً في امكاناتها لايجاد مواقع ثابتة لها في الحياة الاقتصادية ، وإلى شيء من هـذا القبيل يشير لونكريـك فيقول : ان هذه الفئة استطاعت أن تحافظ
على وضعها الممتـاز في مضمار السيادة والنفـوذ حتى في فترة الاحتلال البريطاني ( ) .
وبالرغم من المواقع الاقتصادية التي أحرزتها هذه الفئات البرجوازية ، إلاّ أنها لم تستطع أن تتحول إلى قوة مستقلة في الكيان الاجتماعي ، بحيث تفرض رياح التغيير على مجتمع الولاية ، وربما كان المثقفون وهم أساساً من أبناء العوائل الكبيرة ، أو من البيوت الدينية والتجارية المعروفة آنذاك ، القوة التي تحولت داخل البرجوازية لتبني الفكر القومي ، الذي تولى الشعور به خاصة بعد ثورة 1908 الدستورية . ولقد عملت فئة المثقفين الموصليين على إثارة الوعي القومي العربي بدرجة لا تقل أهمية عمّا جرى في الولايات العربية الأخرى ( ) ، ولم يؤثر توغل العنصر الكردي في داخليته الولاية على ذلك ، كما أشار إلى ذلك بعض الكتاب ( ) ، وإنما حدث العكس من ذلك حين تأثر الأكراد ، كأخوانهم العرب بكافة التطورات السياسية في الدولة العثمانية ، وسارت القوميتان العربية والكردية في خطين متوازيين يستهدفان العمل من أجل التحرر من السيطرة العثمانية ( ) .
طبيعة المجتمع الموصلي :
لعل من أبرز المشاكل التي تعترض الباحـث في التاريخ الاجتماعي لولاية الموصل ، عدم وجود احصائيات دقيقة لسكانها ، وقد حالت دون تحقيق الاحصائيات الدقيقة تلك اعتبارات كثيرة اجتماعية واقتصادية تعد في الواقع أسباباً ونتائج للتكوين الاجتماعي . فلقد تعود معظم السكان ، خاصة أهل الريف ، أن ينظروا إلى أعمال حكومية من هذا القبيل نظرة شك وريبة ويعتقدون انها للتجنيد أو لجباية الضرائب فيتهربون منها أو ينقصون أو يزيدون فيها حسب مفاهيمهم لها . أضف إلى ذلك أن تسجيل النفوس يقتضي له قبل كل شيء أن يتمتع السكان بنوع من الاستقرار في السكن ، إذ أن قسماً كبيراً من السكان في حركة مستمرة من محل لآخر ، وأخيراً فإن انتشار الجهل والأمية بصورة كبيرة في كافة أنحاء الولاية يقف عائقاً دون ادراك الناس لأهمية تسجيل النفوس ( ) .
ومهما يكن من أمر ، فإن عدد سكان الولاية لم يكن ثابتاً طوال العهد العثماني ، وكان طبيعياً أن تترك النكبات الطبيعية التي تعرضت لها الولاية من طواعين وأوبئة ومجاعات آخرها مجاعة 1917 التي أودت بأكثر من عشرة آلاف نسمة ، أثّر على عدد السكان ( ) ، ولكن ثمة اشارات ، تستند إلى استقراء الأوضاع الاقتصادية أو استتباب حد أدنى من الأمن ، تدل على وجود زيادة كبيرة قد طرأت على سكان الولاية .. ومع أن المصادر الرسمية العثمانية لسنة 1907 ( ) قد قدّرت نفوس ولاية الموصل بـ ( 51.200 ) نسمة مع ملاحظة أن العدد يشمل الذكور فقـط ، فإن الدكتور محمد سلمان حسن ( ) يورد أرقاماً تختلف عن الرقم المذكـور استناداً إلى تخمين قام به على أساس المعلومات المتوفرة في تقارير القناصل البريطانيين وللسنوات 1867 ـ 1919 ، وكما يلي :
النمو الكلي لسكان ولاية الموصل ( بالآلاف ) 1867 ـ 1919
السنة 1867 السنة 1890 السنة 1905 السنة 1919
265 401 540 703
تشكل الموصل نقطة احتكـاك وتفاعل دائم بين أقاليم طبيعية أربعة مهمة، فهي من ناحية منطقة انتقال من الصحراء المنبسطة الجافة إلى الجبال الممطرة وما وراءها ، وهي من ناحية أخرى منطقة التقاء بين أقاليم الجزيرة وبين السهل الرسوبي أو سواد العراق …ولا شك في أن لكل من هذه الأقاليم الطبيعية تأثيره الخاص المتميز في تشكيل الحياة السياسية والحضارية والاجتماعية للموصل ، مما منحها بتوالي العصور شخصية محلية واضحة المعالم ظاهرة القسمات ( )،فلقد تميز المجتمع الموصلي في العهد العثماني ، ولا يزال ، بتعدد وتنوع قومياته وأديانه، وعاشت عناصره منذ عصور بعيدة متجاورة مشتركة وفي أجواء غلب عليها طابع التعاون والتسامح والمودة ، بحيث بدا السكان الموصليون وكأنهم ينتمون إلى عنصر واحد . فمن الناحية الاتينية ضمت ولاية الموصل العرب والأكراد والتركمان ، فبالنسبة للعرب ، فإنهم عاشوا في الموصل منذ عصور ما قبل الاسلام وانتشروا في أطرافها أبان حروب التحرير العربية واستمروا يغذونها بالهجرات حتى القرن السابع عشر حتى منحوها صبغتها القومية ، ولعل من أبرز القبائل العربية التي استوطنت الموصل بعد تمصيرها تغلب ونمر وأياد وقريش وبنو الحارث والعزة والحياليين وألبو نجمة ، وقد اتخذت هذه القبائل لنفسها محلات خاصة داخل مدينة الموصل لا تزال حتى يومنا هذا تسمى بأسمهم . فالخزرجيون مثلاً سكنوا في محلة خزرج الواقعة في الجهة الغربية من الموصل واستقرار المشاهدة في محلة تدعى باسمهم حتى الآن وتقع إلى الجنوب الغربي من مدينة الموصل ( ) .
أما الأكراد ، فقـد سكنوا المنطقة الجبلية من ولاية الموصل وتقع إلى الشمال والشـرق من مدينة الموصل وتقـع إلى الشمال والشرق على شكل قوس ، ويتفـاوت ارتفاعهـا بين 8000 و 11000 قـدم وبين هذه الجبال والأراضي السهلة الكائنة في شرق نهر دجلة ، تقع الروابي المتوجه المرتفعة التي يتفـاوت ارتفاعها بين 1000 و 7000 قدم ، وتأخذ سلاسل الجبال في الارتفاع تدريجياً كلمات تقدمنـا نحو الشرق أو الشمال ، وهي تنحدر غرباً حتى تتصل بسهول الموصل وتجري المياه في الوديان ، ويكسو البعض منها أشجار وأدغال ، وتسقط على هذه المنطقة أمطار غزيرة ، وكثير من وديان المنطقة ذوات تربة خصبة تصلح للزراعة ، وتمثل منطقة الجبال حاجزاً استراتيجياً مهمـاً يحمي اقليم الجزيـرة ، وكان لسيطرة الموصل على هذه المنطقة أثر كبير في توفير القوة والأمن للمنطقة كلها ( ) .
تنتشر في ولاية الموصل عشائر عربية وكردية عديدة . فمن العشائر العربية شمر الجربا والجبور والعبيد والجحيش وألبو متيوت وطي وألبو حمد وغيرها ( ). ولا تتوفر احصائيات دقيقة عن تعداد هذه العشائر،ولكن يستفاد مما جاء في قاموس الأعـلام بأن عدد نفـوس العشائر العربيـة التي تسكن الخيام يبلغ نحو ( 93000 ) نسمة ( ) .
تعد عشيرة شمر الجربا من أبرز العشائر العربية في ولاية الموصل ( )، وتنتشر في أماكن متفرقة من الولاية ، فهناك أقسام منها عند نهر الخابور بالقرب من نصيبين ، وأقسام أخرى في شرقي دجلة حول الزاب الكبير . ولعل القسم الذي يوجد في المنطقة المحصورة بين دجلة والفرات حوالي الحضر من أكبر هذه الأقسام ، وكان من عادة شمر أن تنحدر جنوبياً إلى منطقة عقرقوف بالقرب من بغداد ( ) .
كانت رئاسة شمر في الربع الأخير من القرن التاسع عشر موعة بين أخوين هما على الخابور بالقرب من نصيبين ، وفرحان الذي اتخذ من الحضر على وادي الثرثار مقراً له ( ) .
لا تتوفر احصائيات دقيقة عن شمر الجربا ، فكثيراً ما تخمن اعدادها بـ ( 2000 ) خيمة ، وهناك من يقول بأنها تجاوزت في أواخر العهد العثماني ( 10000 ) خيمة ( ) .
اتخذت عشائر شمر من " الخوة " وسيلة لكي تفرض نفوذها على العشائر الأخرى ، فأصبح في استطاعة شيوخها منح أي جزء من الأراضي التي تنتشر فيها للاستغـلال المؤقت من قبـل عشيرة أخـرى ، كما أخذوا يفرضون الخوة على القوافل التي تمر ضمن الطرق التي تسيطر عليها العشيرة . ولم يسلم العدوان والحديديون والجحيش والجبور من دفع الخاوة لشمر( ) .
كان الجبور وهم فرع من زيد ، يوجدون في مناطق عديدة من العراق وينزل قسم منهم بالقرب من نهر الخابور ورأس العين . أما مناطق انتشارهم في ولاية الموصل فكانت أواسط نهر دجلة بين مدينة الموصل وسامراء( ) . وهناك العُبيِدْ وهم أبناء عمومة الجبـور وينتشرون شرقي دجلة بين تكريت وكفري ، ويتركز معظمهم في منطقة الحويجة في كركوك . أما عشيرة طي فتمتد في الدرجة الأولى بين جبل سنجار ونصيبين ، وتعد هـذه العشيرة من العشائر القوية والكبيرة بعد شمر ( ) .
والشيوخ في العشائر العربية ، هم رؤساؤها وزعماؤها وسلطتهم كانت أعلى سلطة يخضع لها الأفراد . ويتولى الشيخ المشيخة عن آبائه ومهماته في العشيرة تنحصر في تعيين مناطق اقامتها وتجوالها وتحديد طبيعة علاقاتها بالعشائر الأخرى ، وكان هو الذي يعلن الحرب ويطلب الصلح ويقرر التحالف ، كما كان مسؤولاً امام الحكومة عن ضمان الأمن في مناطق عشيرته ، وغالباً ما كان الشيخ يقـود عشيرته ضد الحكومة ، ويرث الشيخ في تولي المشيخة في العشيرة عادةً ابنه الأكبر ، إلاّ إذا كان هذا الابن غير مؤهل بزعامة العشيرة ، إذ تسند المشيخة في هـذه الحالة إلى أبرز الرجال في بيت الرئاسة في العشيرة . وقد ألفت عائلة الشيخ في بعض العشيرة أمثال شمر كثرة عددية بسبب اقتران الشيخ بأكثر من زوجة، رغبة منه في الإكثار من الأبناء ، ونادراً ما يلجأ الشيوخ إلى الزواج من خارج بيت الرئاسة في العشيرة إلاّ في حالات المصاهرة لتوثيق الصلات مع العشائر الأخرى ، أو مع بعض الأطراف لدوافع سياسية ( ) .
ولمعظم العشائر العربية أعراف هي بمثابة القوانين ، تسمى ( السواني ) وتنظم هذه الأعراف شؤون أفرادها وعلاقاتهم مع الآخرين سواء أكانوا من العشيرة نفسها ، أم من خارجها . وأبرز هذه السواني الحماية والعرض وحق الصيد والدخالة والالتجاء والوجه او التسيار ( ) .
ولكل عشيرة قاضٍ يقوم بتطبيق العرف فيها أو يقوم بحسم منازعات أفرادها يطلق عليه ( العارفة ) ، ولقد وجد في شمر الجربا على سبيل المثال نوعين من القضـاة ، النوع الأول وهم الذين يتوارثون القضاء في العشيرة المذكورة أباً عن جد منذ أن كانت شمر في نجد ، وسمي هذا النوع بعوارف المناهي،أما النوع الثاني فهم القضاة الذين يختارون المتنازلون لثقتهم بقدرتهم على حسم النزاع لما يعهدون فيهم من فطنة وذكاء ويسمى هذا النوع بعوارف المشاهي ( ) .
وفي حالات الغزو والحرب ، كانت العشائر تراعي بعض القواعد عدم مفاجئة إحدى العشيرتين المتحاربتين للأخرى بالحرب قبل أن تخطرها بانذار يعرف بـ ( النكا ) ، وتخصص شمر في حالة الغزو قسماً من المحاربين للبدو بالهجوم وقسماً آخر للقيام بدور الكمين لرصد أية مفاجئة ، ويخصص مكان الوسط بين صفوف المقاتلين للشيوخ من آل محمد ويرتب عن يمينهم وشمالهم عـدد من المقاتلين يدعون بـ ( السـرية ) ، ويطلق على القائد في المعركة اسـم " عجيـد " ، ولبعـض العشائـر رايات خاصـة هي بمثابة الأعلام ( ) .
أما حالة معظم العشائر العربية الثقافية فقد كانت متدنية ، وكان أفراد هذه العشائر يفتقرون إلى التعليم سواء بسبب إقامتهم البعيدة عن المدن ، أو بسبب ضعف اهتمام الحكومة العثمانية بتعليمهم لكن هذا لم يمنع بعض أبناء الشيوخ من التحصيل الدراسي وخاصةً في مدرسة العشائر التي أنشأتها الحكومة العثمانية في عهد السلطان عبد الحميد الثاني ( 1876 ـ 1909 ) في استانبول لاستمالة الشيوخ وتوجيه ولاء ابنائهم للحكومة ( ) .
تنقسم العشائر الكردية في ولاية الموصل بوجه عـام إلى عشائر رحلا وأخرى شبه مستقرة ، فسهول أربيل والسليمانية كانـت مأهولة في غالبيتها بقبائل كردية شبه مستقرة في حين كانت المناطق الجبلية توطن من قبل العشائر الرحالة.وقد مال قسم من العشائر إلى حالة الاستقرار وسكن القرى ، ومن هؤلاء جماعات في عشائر هورمان وبلباس وبايلان وسنجابي وهركي، وتنقسم العشائر الكرديـة ، شأنها شـأن العشائـر العربية إلى عـدة فروع
وأفخاذ ( ) . وأهم العشائر الكردية وأكبرها هـي عشائر الجاف في منطقة السليمانية وتقطن في ناحية شيروان في حلبجـة وكفـري . وهناك عشائر الهماوند الذين يعـدون في الأصل من الجاف ، وقد سكن قسم منهم جمجمال وبازيان . وفي أواخر القرن التاسع عشر أخذت عشائر الجاف بالتحول نحو الاستقرار وممارسة الزراعة في سهل شهر زور ( ) .
وقد عرفت المنطقة الكردية شأنها شأن المنطقة الجنوبية من العراق ، الأحلاف والاتحادات القبلية ،ولعل من أبرز هذه الأحلاف ، حلف زنكنه الذي استوطن بالقرب من جبال قره تبه . وهناك عشائر كردية استقرت في مناطق مختلفة من ولاية الموصل . فمن عشائر زاخو الكلي والسندي والسليفاني . ومن عشائر دهـوك المزوري والدوسكـي والشرفان . ومـن عشائر عقرة السورجية ،ومن عشائر العمادية ريكان ونيروه برواري بالا . وهناك عشائر الزيبار دزه ئي التي كانت تتجول باتجاه أربيل والموصل . وكثيراً ما وقفت العشائر الكردية جنباً إلى جنب مع العشائر العربية في وجه الغزاة والطامعين في مراحل عديدة من التاريخ الحديث فامتزجت دماء الجميع في ساحات الوغى دفاعاً عن الأرض ( ) .
أما بالنسبة للوضع الاجتماعي للعشائر الكردية ، فيمكن القول أن العشيرة تتكون من طبقتين ، الأولى المقاتلون وهم العشائريون الذين يميزون أنفسهم بأنهم من الأكراد الأقحاح ، لذلك أتخذوا هذه النظرية وسيلة لتبرير سيطرهم وميلهم نحو التميز عن الطبقة الثانية التي ليست من أصل عشائري وتسمى بـ ( الكرمانج ) في منطقتي الموصل وأربيل و ( مسكين ) في منطقة كركوك والسليمانية .
وفي أجزاء من السليمانية يسمون بـ ( كوران ) أي فلاح وحالتهم كانت كحالة عبيد الأرض يملكهم مالك القرية ويفرض عليهم الخضوع التام ، ويتحمل ( الكرمانج ) الأعباء الاقتصادية فيحين لا يمارس العشائريون أي شيء من ألوان الحياة المادية الأخرى ومنها الزراعة . وعلى الرغم من امتيازات العشائري المادية ، إلاّ أن حياته أتسمت بالبساطة في المعيشة ، حيث أن بيته لم يكن يختلف عن بيت الفرد الكوراني المكونة من أكواخ من الأغصان أو بيوت من الطين أو خيم من الشعر ( ) .
تتفرغ الرئاسة أو السلطة في القبيلة الكردية وتتوزع بين رئيس القبيلة والأغا والكوخة . وينبغي أن يتمتع رئيس القبيلة بالكرم والشجاعة ويعاونه في ادارة شؤون القبيلة مجلس استشاري من وجهاء القبيلة ولرئيس القبيلة ضريبته على الأرض والمواشي وغالباً ما يكون له نفوذ ديني ومعنوي على أفراد عشيرته . أما الأغا فهو رئيس القرية ، وهو أحد أفراد الأسرة الحاكمة في القبيلة ، ويعد الأغا الحاكم المطلق في قريته ، إذ يقوم بشؤون الادارة والقضاء " ومع أن أغوات أو مالكي الأراضي يحكمون جميع المساحات الزراعية لأن هناك علاقات قرابة بينهم ، غير اننا لا نجد أية قرابة بينهم وبين فلاحيهم ، هذا على الرغم من أن الفلاحين مكلفين بواجب الدفاع عن الأرض " . ويشبّه بعض الكتّاب الأغا بالبارون .. فهو لا يعمل أي عمل يدوي ويعيش على ما يجمعه من القبيلة ، فالفلاح يدفع عشر محصولاته الزراعية ، كما يدفع ضريبة الماشية ( الكودة ) وكانت الحكومة تقبل من الأغا مبلغاً إجمالياً بعيداً عن قيمة العشر والكودة الحقيقتين . ويتخذ الأغا في القرية محلاً لسكناه يخصص ركن منه كمضيف ( ديوانخانة ) ومن الطبيعي أن يساهم ساكنوا القرية بتغطية نفقات الضيافة . أما الكوخة ، او المختار فهو الذي يعهد إليه رئيس القبيلة أو الأغا رئاسة القرى ، حيث أن من الصعب على رئيس القبيلة أو الأغا ممارسة سلطته على قرية ما مباشرة فيعين الكوخة ليكون واسطة بين الأغا والفلاحين ووظيفته الأساسية أخذ نصيب من المحصول الزراعي والحيواني لسيده ( ) .
أما بالنسبة لسكان الريف ، فلقد كانت تشكيلاتهم الاجتماعية تختلف تبعاً لأنظمة الري والزراعة . ففي ولاية الموصل كانت الوحدة الاجتماعية هي القرية التي تعيش على الاكتفاء الذاتي ، بينما في الأجزاء الآخرى من العراق كانت العشيرة ( ) . ولقد أشرنا فيما سبق إلى انتقال ملكية الأراضي بمرور الزمن ولعوامل كثيرة من أيدي الفلاحين إلى أيـدي الملاكين ، ومع هذا فقد بقيت الملكية الصغيرة سائدة في المنطقة الجبلية في ولاية الموصل ( ) .
ولقد أشار عدد من القناصل الأجانب في الموصل إلى حالة سكان الريف خلال العهد العثماني . فوصفوهم بأنهم كانوا " تعساء قد طحنتهم الضرائب ، كما أن غزوات جيرانهم البدو كانت تداهمهم بدون انقطاع " ( ) .
شكّل سكان المدن في مطلع القرن العشرين ، حوالي 25./. من سكان ولاية الموصل ( أي ما يعادل 540 ألف نسمة ) ومدن ولاية الموصل الكبيرة هي الموصل والسليمانية وكركوك وأربيل ومعظم هذه المدن أقيمت لأغراض تجارية . وفي هذه المدن كان التسلسل الاجتماعي مؤلفاً من الحكام والرعية . فهناك الوالي وأركانه من الاداريين والعسكريين . أما الرعية فكانوا منقسمين بين الوجهاء أو أعيان المدينة من التجار ومالكي الأراضي من جهة وبين الجماهير من الحرفيين وبقية العامة ( ) . وقد أشرنا فيما سبق إلى أن مدن ولاية الموصل شهدت بروز أسر ذات أهمية اقتصادية أو دينية أو علمية . وتعد الأسرة الخلية الرئيسة في مجتمع المدينة . والأسرة الموصلية ، أسرة واسعة ، فحين يكون الجد باقياً على الحياة يسكن مع أولاده المتزوجين ويكوّنون بنيات أسرة واحدة ويعيشون في بيت واحد وماليتهم واحدة ، وإذا كان الجد قد شاخ أو توفي فيحل محله ابنه الأكبر غالباً لادارة شؤون الأسرة ( ) .
وتتألف المدن الموصلية من محلات تتميز بضيق أزقتها وشوارعها ، وغالبية مدن الولاية كانت غير مبلطة ومغبرة وموحلة شتاءاً على الرغم من وجود البلديات التي تأسست في أواخر القرن التاسع عشر ، وأخذت على عاتقها فتح الشوارع أو توسيعها وإنشاء الأرصفة والمجاري والاهتمام بنظافة وتنظيم المحلات والأسواق ( ) . ويبدو أن دوائر البلدية ظلّت حتى أواخر العهد العثماني تدار بشكل تقليدي ، وتعاني من نقص في الملاكات والخبرات الادارية والفنية ، هذا فضلاً عن معاناتها من قلّة التخصيصات المالية ( ) .
ولقد تميزت المدن الموصلية بوجود الأسوار التي تحيط بها ، وتنتشر في جميع مدن الولاية ، وكذلك الأسواق والخانات والحمامات الشعبية . أما مياه الشرب فكانت تنقل إلى البيوت في قُرَبْ من جلود الماعز ، وعلى ظهور الحيوانات ، ولم تعرف مدن الموصل مشاريع إسالة الماء إلاّ في مطلع القرن العشرين ، حين استخدمت أنابيب من الحديد لإيصال الماء إلى الدور السكنية ( ) .
وكان أبناء المدن يقضون معظم أوقات فراغهم في المجالس الأدبية التي تعقد في بيوت عدد من الأسر العلمية التي برزت في الموصل خلال العهد العثماني كأسرة الفخري وأسرة الغلامي ( ) ، واحتلت المقاهي ، مكانة مهمة في حياة المدينة الموصلية ، إذ كانت بمثابة النوادي التي يلتقي فيها معظم المواطنين ، وتلقى في بعض هذه المقاهي القصص الشعبية التي تؤكد على البطولة والفخار حيث يجلس في محل مرتفع ويقص على الناس أخبار أبطال العرب أمثال عنترة العبسي وأبو زيد الهلالي ، وكانت تلك المقاهي كذلك أماكن لتجمع أصحاب الحرف والالتقاء بذوي الحاجة من الناس ، وغالباً ما تكون داخل الأسواق . وبعد 1904دخل جهاز الحاكي ( الفوتغراف ) فسارع أصحاب المقاهي لاقتنائه ، وانتشرت عادة سماع الأغاني أو الأناشيد الدينية داخل المقاهي .. وأثار دخول هذا الجهاز الجدل ، وفيما كان استعماله حلالاً أم حراماً ، لذلك تدخل بعض علماء الدين وأفتوا بجواز استعماله إذا اقتصر على سماع الأناشيد الدينية . أما فيما يتعلق بدخول الشاي إلى المقاهي ، فيبدو أنه حدث حوالي 1895 ، وفي مطلع القرن العشرين تحولت بعض المقاهي إلى نوع ساذج من الملاهي واستقدمت بعض الراقصات من حلب ومصر ( ) .
وعرفت الموصل المسرح منذ 1880 ، إذ عني المبشرون به ، وكان هدفهم نشـر التعاليم الدينيـة والأخلاقية بين رعاياهـم ، ولعل مـن أوائل المسرحيات التي مثّلت في الموصل مسرحية نبوخذ نصر التي ألفها الخوري هرمز فرسو الكلداني ، وقدمت على مسرح المدرسة الأكليرية سنة 1888 . أما السينما الصامتة فقد دخلت الموصل سنة 1909 ( ) .
ومهما يكن من أمر ، فإن لحركـة التحديث التي شهدتها الموصل منذ النصف الثاني من القرن التاسع عشر أثـر كبير في اقتراب الموصليين من الحياة المدنية وابتعادهم عن الحياة القديمة التقليدية التي كانت أشبه بحياة البداوة. ولقد لعبت المدارس الحديثة والمطابع والصحافة والتنظيمات الحزبية التي تشكلت بعد انقلاب 1908 أثر كبير في ذلك .. ولقد أدى الاهتمام بحركة التحديث إلى ظهور فئة من المثقفين الموصليين من أبناء المدن قدّر لهم أن يقوموا بدور مهم في حياة الموصل العامة ، خاصةً بعد الحرب العالمية الأولى وفي السنوات التالية لها ( ) .
الأنشطة الاجتماعية في الولاية :
أ ـ النشاطات الاقتصادية والدينية :
مارس الموصليـون أنشطة اجتماعية عديدة ، من خلال مؤسساتهم الاقتصادية والدينية ، كما برزت أنشطتهم في تقاليدهم وملابسهم واحتفالاتهم الدينية والرسمية والشعبية . فبالنسبة للمؤسسات الاقتصادية ظلّت الأصناف تمارس دورها الاقتصادي طيلة العهد العثماني ، ويرأس الصنف شيخ يسمى شيخ الصنف ، وكانت هناك أسواق لسائر أصناف التجار والحرفيين مثل سوق الملاحين وسوق السراجين وسوق العلوة وسوق الصفارين . وقد شهد العهد العثماني محاولات عديدة لغرض الرقابة على الأصناف والحرف ، ففي الموصل خضعت إلى اشراف موحد وجعلت تحت مشيخة واحدة وفرضت عليها الضرائب بالضمان ، فلكل حرفة ضامن ملتزم أمام حكومة الولاية بتحصيل الضرائب ، وكان على شيخ الأصناف أن ينظم حساباته في دفتر خاص يبين ما ينفقه وسبب انفاقه ، وأنه كان عليه أن يقدم دفتره هذا إلى الضامن ليشرف بنفسه عليه ( ) .
أما أبرز المؤسسات الدينية في ولاية الموصل ، فكانت نقابات الأشراف والطرق الصوفية ، والأشراف هم الذين يعودون بنسبهم إلى الرسول محمد ومعظمهم من الأسر العربية العريقة التي اشتهرت بالعلم والسيادة والزعامة طيلة العصور الاسلامية ، ومـن هؤلاء آل النقيب في الموصل . وقد انحصرت نقابة الأشراف في الموصل في أسـرة واحدة تنتمي نسباً إلى السادة من أحفاد عبيد الله الأعرج الحسيني العلوي . واشتهر منهم بالنقابة
في العهد العثماني عدد من الأشخاص عرفوا بالفخريون نسبةً إلى
أحـد أجدادهم فخر الدين ( ت 1719 م ) ومنهـم السيد حسن أفندي المفتي
( ت 1778 م ) ( ) .
وكان الأشراف يقومون بدور الوسيط بين الحكام والسكان المحليين من عامة الناس ، وكانوا في أهم الأمور موالين للسلطان مخلصين له، مع كونهم في الوقت نفسه الزعماء في مدينتهم . وقد حاولوا في بعض الأحيان الحد من جماح السلطة العثمانية ، وكانت وسائل القيام بهذا العمل متاحة لهم. لأنهم كانوا يستطيعون تعبئة الرأي العام وتجنيده عن طريق استخدامهم الوعاظ ومشايخ المحلات وزعماء الحرف،بالإضافة إلى ما كان لهم من تأثير ونفوذ عن طريق صلاتهم بأصحاب الوظائف الدينية وفي مقدمتهم العلماء في استانبول ( ) .
وفي مدينة السليمانية ، أشتهرت اسم السادة في برزنجة ، وهي قرية كبيرة تبعد أربعة عشر ميلاً شرقي مدينة السليمانية ، وقد احتلت هذه الأسرة مكانة متميزة لدى الأكراد . وتشير شجرة الأسرة إلى اتصالها من الجيل السابع بالإمام موسى الكاظم ، وثمة فروع للأسرة عرفت بأسماء القرى التي أسسها السادة أو أحفادهم مثل سه ركه لو ، دول له مو ، نودي . ولقد حصل أفراد الأسرة على بعض الفرامين من السلاطين العثمانيين تتضمن وقف بعض الضرائب لتسديد نفقات مساجدهم وتكاياهم ( ) .
وشهدت الموصل ، نشاطات عديدة لبعض الطرق الصوفية خلال العهد العثماني ، وكان لهذه الطرق أثر بيّن في المجتمع الموصلي وذلك بما كانت تؤديه من دور اجتماعي وما تتيحه من حفلات الذكر والمواليد ، وخاصةً في المناسبات المختلفة . ومن الطرق التي وجدت حظّها من الانتشار في الموصل الطريقة المولوية والطريقة القادرية والطريقة النقشبندية ، وكان لهذه الطرق تكايا عديدة انتشرت في مختلف أنحاء الولاية . وقد شجّع انتشار هذه الطرق حالة التدهور السياسي والاجتماعي التي أعقبت سقوط الدولة العربية الاسلامية ، وتربط المولوية طريقة الذكر بنغمات الناي ، ومن تكايا المولوية في الموصل التكية التي كانت تتخذ من مسجد شمـس الدين بن عـدي بن صخر الأموي الملقب بتاج العارفين مركزاً لها . وترتبط بهـذه التكية فرقة موسيقية أنشأها عثمان الموصلي سنة 1910 ( ) .
أما الطريقة القادرية فقد انتشرت في ولايسة الموصل وخاصةً في المنطقة الكردية ، ومن أبرز تكاياها تكية زيوه كان ( أواخر القرن السادس عشر ) وتكية بريفكان ( القرن السابع عشر ) ويطلق على مريدي الطريقة القادرية في المناطق الكردية اسم الدراويش ( ) . ويصف الدكتور سليياف الرحالة الروسي المعروف ، وقد التقى ببعض الدراويش سنة 1914 اتباع الطريقة بأنهم كانوا " يرتلون لا إله إلاّ الله وهم يتحركون ويميلون ببطء في بادئ الأمر ، ثم يسرعون في النغم على أصوات الدفوف الكبيرة إلى أن يصلوا إلى حالة غير اعتيادية من الغيبوبة والوجد … وكانوا يدورون بأجسادهم بسرعة حتى يتبعثر شعر رأسهم الكثيف " ( ) .
ولقد ترددت في ولاية الموصل أصداء طريقة صوفية جديدة كانت قد تأسست في القرن الرابع عشر ، هي الطريقة النقشبندية . ويعد الشيخ خالد النقشبندي ( 1776ـ 1817 ) أول من أدخلها إلى ولاية الموصل ويطلق على مريدوها اسم ( الصوفية ) ومعظم اتباعها كانوا في المنطقة الكردية ومن غير المتعلمين ، لذلك فهم يميلون بصورة خاصة إلى مظاهر خاصة في ممارسة طريقتهم . ومن أشهر تكاياهم تكية بامرني من أعمال العمادية في شمالي الموصل وتكية بارزان التي أنشأها الشيخ عبد الله البارزاني خليفة الشيخ طه النهري ( ت 1825 م ) ( ) ، ويقول فلاديمير مينورسكسي ( ) أن شيوخ شهر زور وشمدينان كانوا ينتمون إلى الطريقة النقشبندية ، وانهم يتمسكون بالتعاليم الدينية ويؤمنون بقدرة أجدادهم الروحية وهم يتمتعون باحترام كبير بين الأكراد .
ب ـ الأزياء والملابس :
تميزت أزياء الناس في ولاية الموصل بالتنوع الشديد في أشكالها وألوانها وأثمانها ذاك كانعكاس طبيعي للتنوع القومي وحرية الناس في ارتداء الملابس التي تنسجم مع أوضاعهم الاقتصادية . ففي مدينة الموصل نجد أن الموصليين حافظوا على زيهم الخاص المتمثل بالكوفية والعقال .. أما علماء الدين فكانوا يرتدون ( الزبون ) تحت الجبة في الشتاء أو (الصاية) في الصيف .وكان التجار وأرباب الحرف يرتدون الزبون وفوقه ( الدميري ) والعبـاءة ولم يتركوا رؤوسهم حاسرة ، وإنما يضعون على رأسهم
( العمامة ) ( ) . وبعد الانفتاح على منجزات الحضارة الأوربية ارتدى الموظفون والمثقفون خاصة الزي الأوربي المتمثل بالبنطلون والسترة . كما اعتمدت هذه الفئة الطرابيش،وقد أطلق الأهالي على هذه الفئة اسم " الأفندية " وواجهت مسألة ارتداء الملابس الغربية العنت من العامة إذ لم يستسيغوها في بادئ الأمـر ( ) .
أما لباس البدو والفلاحين ، فكان يتألف عادةً من ثوب فضفاض طويل وتغطي الرؤوس بالكوفية يمسكها العقال وتوضع العباءة فوق الأكتاف ( ) .
وتختلف ألبسة الأكراد اختلافاً بيّناً عن ألبسة أشقائهم العرب ، إذ أن ملابسهم بشكل عام أكثر شداً إلى الجسم ، قياساً إلى سعة وفضفضة ملابس السكان العرب ويعود ذلك إلى وعورة المنطقة الجبلية وبرودة مناخها ، ويلعب السروال ( الشروال ) المصنوع من مواد ومنسوجات محلية في أغلب الأحيان دوراً رئيساً في اللباس الكردي ( الشل وشبك ) ، ثم يليه القميص القصير والسترة التي تسمى ( كرتك وشروال ) والحزام الملفوف على وسطه عدة مرات ، ولباس الرأس المتمثل بالعمامة الكردية الخاصة. ويظهر بين الأكراد استعمال الأحذية المحاكة من الصوف ولا يمكن لكل رجل وامرأة كردية الاستغناء عن ارتداء سترة قصيرة تسمى ( الجاروكة ) ( ) .
ويشتمل لبـاس النساء البدويات على قمصان عريضة واسعة الأكمام وطويلة تصل إلى أخمص القدمين ، وتلبس النساء فوقها العبادة ويغطي الرأس بمنديل من القطن أو الحرير من ألوان مختلفة . والبدويات يلبسن كذلك الأساور والخلاخيل الثقيلة وحلقات يعلقنها بأنوفهن ( ) .
وللنساء الساكنات في القرى المسيحية المحيطة بالموصل ملابس خاصة تتكون من غطاء للرأس يتكون من برنس مربع محشو في قمته وسادة مستديرة سمكها انجان تحتها صفيحة مذهبة توضع على الرأس والرقبة مع عدة أوشحة تشكل نوعاً من العمامة.. وهي عند النساء الشابات مرصعة بالجواهر وسائر الأحجار الكريمة ، ولهن عصائب ذات زوايا ذهبية وقلائد مصنوعة ببراعة ، وأقراط وخلاخل وأساور ، غير أن كل هذه الزينة محفوظة للبيت لأن المرأة لا تخرج منه بدون الملاءة الزرقاء المتعددة الألوان والخمار( ).
أما لباس المرأة الكردية فيشتمل عادة على السراويل العريضة ، وعلى ثوب فضفاض يحزم بحزام ذي عروتين كبيرتين من الفضة ويلبس فوق ذلك ( المشلح ) من نوعية الصدرية الذي يزرر عند الرقبة . ولكنه يترك غير مزرر من الرقبة ، ويخاط عادةً من الحرير المخطط أو المشجر أو من النسيج الملون وذلك يختلف باختلاف الموسم أو شراء صاحبة اللباس . وكما هو الحال بالنسبة لبقية النساء في العراق ، فإن المرأة الكردية ترتدي أزاراً أزرق محققاً ، ونقاباً أسود من شعر الخيل ( البوشية ) أما القرويات منهن فلا يستعملن الحجاب . وتميل المرأة الكردية إلى تزيين نفسها ومن ذلك صبغ الشفاه بقشور الجوز الطري ، واستعمال الخلاخيل في الأذرع والسيقان والأقراط في الأنف والأذان وسلاسل الذهب في الرأس والصدر ( ) .
كما ارتدأت المرأة الموصلية أزار طويل تعقده بيـدها من وسطها ولونه أسود ، وتلبس الجزمة ذات الحلق الطويل ، وتضع على رأسها طربوشاً مزركشاً بقطع ذهبية مصاغة على نحو خاص ، وتتبرقع بما كان يسمى بـ " الخيلية " نسبة إلى " خيلة " أي أن البرقع يريها أشباحاً وأشخاصاً على وجه الظن لا على وجه اليقين والخيلية عبارة عن نسيج من خيوط سود مخرمة تطرز أطرافها بما يجعلها غير مرنة،ثم استبدلت بعد ذلك بالبوشية ( البيجة ) التي هي عبارة عن قطعة من القماش الأسود الشفاف ( ) .
ج ـ الأعياد والمناسبات الاجتماعية :
كانت الأعياد والمناسبات الاجتماعية من المناشط التي عكست وحدة المجتمع الموصلي ، حيث تشترك العناصر كافة في الاحتفالات بأعياد كل طائفة ، وبصرف النظر عن الاحتفالات في المناسبات الرسمية التي تقام لمناسبة جلوس ( تتويج ) سلطان أو ولادة أمير عثماني أو تجديد فرمان الوالي ، فإن ولاية الموصل شهدت احتفالات ذات طابع شعبي ، يطغى عليه أحياناً الطابع الديني،حيث يشارك الشعب فيها مشاركة فعلية ومن ذلك ما يحدث عند التثبت من رؤية شهر رمضان وهلال العيدين ( ) .
وتعد احتفالات الزواج وولادة الطفل وبالأخص الذكر والختان في المناسبات الشعبية التي يحتفل بها الناس . وكانت هذه المناسبات من الفرص التي تتيح للمرأة رؤية الرجل من وراء حجاب الخيلية فهي حرة في النظر إليه ، إلاّ أنه لا يستطيع رؤية وجهها إلاّ إذا سنحت له فرصة عارضة كأن ترفع الخيلية عن وجهها في طريق ما فيرها غرضاً فيقع في حبها . والزواج متنفس المرأة والرجل دون اختيار في كثير من الأحيان ، وهي تنظر الزوج ويكفي رضى الأب لبنته في الزواج ، وكل ما يطلب من الزوج " ستر الحال ما دام يستطيع تقديم عيشة الكفاف وليس لها بعد تزويج الأب حق النقض ، فإذا كان يوم الزفاف زُيّنت العروس بنوع خاص من مبيضات الوجوه يسمى " سبيداج " ومشطت الماشطة جذائلها وصففتها وتغني النساء فرحاً :
يا ماشطــا مشطيهــا
بالعكــل لا تألميــها
مشط الذهب لا يكك عليها
ومعلمـي على الدلالـي
ومعناه يا ممشطة الشعر مشطي شعرها بتأنٍ وعقل ولا تؤلمي شعرها ، فإن مشـط الذهب يليـق بها وبشعرها ، فإنهـا تعلمت على عيـش الترف والدلال ( ) .
ويوضع على شفتي العروس قطن فيه صبغ أحمر كما تصبغ الخدود بالأحمر نفسه ، وينتظر الرجال عند الباب ويصيحون بأن الوقت قد حان ، وتخرج العروس لتركب حصناً مزيناً إلى دار زوجها … وأمامها الرجال ومن خلفها النساء يهزجون ويزغردن حتى تصل إلى الدار ، بينما يكون الجهاز قد أرسل من قبل تحمله أحصنة مزينة بالسرج والأشرطة . وفي بيت الزوج تغني النسوة الأغاني ، وربما دبكت النسوة وهنّ يغنين الأغاني الشعبية منها :
ليـا على ليـا ليـا على ليـا
وتميل جنهـا شطب ريحـان على الميـا
ومعناها أن هذه البنت الجميلة إذا تمشِ تتلوى ليا بعد لي وتميل كأنها شطب ريحان على الماء . أما أهازيج الرجال بهذه المناسبة فكانت تنشد هذه الأهزوجة الركبانية :
يا جمـال الحكك بان النـا
ثم تردد هذه اللازمة بصورة جماعية بينما ينفرد أحدهم بالقاء الأهزوجة :
لو هللتي يام ثوب ادعم
والهلهولا ال ويلاد العـم
اش حـدو الغرب اليكحم
رايـح دمـوا مطلوب النا
فيردد الرجال : يا جمـال الحكك بان النـا أي الحق ظهر لنا واضحاً جلياً .
ويستطيع المنفرد بالهـزج أن يلقي ما شاء على غرارها بين اطلاق البارود وزغاريد النساء ، ويشهر كل سلاحه من خنجر أو قامة أو سيف ، فهي فرصة لا تعوض للفت أنظار النساء .. ويتضح من هذا أن الجمال كانت محط المباهاة ، وموضع الاعتزلز فهي واسطة النقل ، والتفاخر بها تفاخر بأعز ما يملك الانسان آنئذٍ،ويلاحظ أن بنت العم حق لابن العم لا ينازع فيه ، أما الغريب الذي يحاول اقتحام هذا الحق ، فإن دمه مهدور على عادة التعصب القبلي ( ) .
وتأخذ المناسبات التي تُقام بها الأفراح في المجتمع الكردي أشكالاً وصوراً مختلفة منها خاصةً حفلات الزواج . ومن العادات المألوفة في المنطقة الكردية أنهم يفضلون الزواج المبكر ، وغالباً ما تنشد الأم لابنها فتاة من أسرة تكافئ أسرتها من حيث الجاه والثروة، وإذا ما وجدت الأسرة لابنها بعد البحث الطويل ، يذهب عميد أسرة الفتى إلى أسرة الفتاة ويطلب يدها . وينفق الأكراد عادةً نفقات كبيرة على حفلات الزواج والزفاف ، إذ أن يوم الزفاف يعد احتفالاً لجميع أهالي القرية أو المحلة ، حيث تقام الولائم وتعزف الموسيقى والمزمار ، وفي يوم الزفاف يذهب أخ العريس إلى أسرة العروسة ويشد الرباط الذهبي أو الفضي على خاصرة العروس ، وتزف العروس في أكثر مدن وقرى المنطقة الكردية على فرس يقوده أحد الشباب من أقرباء العريس وتستمر الاحتفالات ثلاثة أيام وأكثر حسب مقدرة العريس المالية . وكما أن للعريس موكباً من الرجال فإن للعروس كذلك موكب من النساء يزغردن ويغنين ويرقصن ، وفي ليلة الدخلة يزف العريس وسط معارفه واصدقاءه مع جوقات موسيقية وتطلق العيارات النارية بعد دخول العريس على عروسه ( ) .
ونظراً لما تتميز به الموصل في فصل الربيع من تلون الزهور وتعدد النباتات ، وما يتخلل ذلك من غدران ومياه تنساب بها وطيور تغرد في حقولها ، فقد اعتاد الموصليون الخروج إلى ظاهر المدن والاحتفال بالربيع . وتنظيم حفلات الرقص ( الدبكات ) . ويمارس الناس ألعاباً مختلفة ويقيم أرباب الحرف تجمعات تسمى ( حريفانات ) مفردها ( حريفانة ) نسبةَ إلى الحرفة ، ولكل حرفة يوم خاص تحتفل به . ويشارك المسلمون أخوانهم المسيحيين جميع أعيادهم ، وينتشرون حول الأديرة التي تزخر بها الموصل ويقضون وقتهم في الألعاب وركوب الخيل وغير ذلك . ويذكر العمري أن من عادات المسلمين في الموصل أن يقدموا الهدايا إلى أخوانهم المسيحيين في الأعياد الربيعية ، التي ترتبط بصوم الخمسين .. ومن تلك الأعياد عيد أحد مار كوركيس وهو في رابع أحد صوم الخمسين ، وعيد مار ميخائيل وهو في خامس أحد لصوم الخمسين ، وهذه عادة قد لا نجدها في أغلب المدن الاسلامية في ذاك العصر ( ) .
ويقصـد الموصليون حمام العليل ، وتقع جنوبي مدينة الموصـل بنحو ( 24 ) كيلوا متراً في الربيع والصيف،يتمتعون بمناظرها الجميلة ويستحمون بمياهها المعدنية الحارة ، ويقيم بعضهم عرائش تسمى ( عرازيل ) على ساحل دجلة ، وفي الأماسي تكون الحلقات على شاطئ النهر وتتردد فيها الأغاني وآلات الطَرق ويمارس المصطافين مختلف ألعاب التسلية والسمر حتى كان الناس في عيد لا ينقطع فإذا ما حلَّ فصل الخريف أسرعوا بالعودة إلى الموصل وينتهي بذلك موسم الاصطياف ( ) .
ويخرج الأكراد في احتفالات الربيع السنوية ، ولهم في ذلك تقاليد خاصة ، إذ ينظمون ( الدبكات ) الشعبية . ويعد المجتمع الكردي من أقدم البيئات التي عرفت الدبكات من مختلف أنواعها ، منها دبكات يشترك فيها الرجال وحدهم ودبكات تقوم بها النساء وحدهنّ ، وفي مناسبات خاصة هناك دبكات مختلفة يشترك فيها الرجال والنساء معاً . والدبكات ليست من نوع واحد ، وإنما هناك دبكات مختلفة الأنواع والأشكال ( ) .
وضع المرأة :
بالرغـم من أن المرأة تعد الوحدة الأساسية في العائلة ، إلاّ أنها في الموصل عانت كثيراً من العنت خلال الفترة التي أعقبت سقوط الدولة العربية الاسلامية بيد المغول سنة 1258 ، فقد عاشت آنذاك وهي منعزلة لا يسمح لها بالخروج من الدار إلاّ نادراً ، وإذا ما أرادت الخروج ،كانت تسدل عليها العباءة السوداء وتتبرقع ببرقع أسود لا يرى منه شيء ، وعليها أن تمر في الدروب الضيقة والأزقة المتعرجة . وقد يبلغ التعصب بالرجل ، أن يمنع زوجته الخروج من البيت لأي سبب كان .. وكان أحدهم يتحدث مفاخراً بأن زوجته لم ترَ عتبة الباب . ويخجل الكثير من الرجال من ذكر اسم الأم أو الزوجة والأخت أمام الغرباء ( ). وقد وصف مجتمع الموصل أبان العهد العثماني بأن " مجتمع منعزل ، وهو أشد صرامةً وتحفظاً على النساء ، فهي في دائرة الأسوار ، لا تخرج إلاّ إذا ذهبت إلى الحمام أو إذا أخذت الملابس إلى الشط لتغسلها مبرقعة " ( )، إلاّ أن بعض الرحالة أشاروا إلى " اختلاف حياة نساء الأسر الثرية ، في مدينة الموصل ، عن حياة غيرهن من عامة نساء الشعب فهنّ أقل تحجباً من نساء بغداد ، ويشبهن نساء البلدان الأوربية في حياتهن" ( ).ويرتبط بهذا قيام بعض أولئك النساء طيلة العهد العثماني ، ببناء المساجد أو المدارس الدينية على نفقتهن الخاصة . وقد تثبت اسمائهن على ألواح تذكارية في هذه المباني دون أي حرج ( ) ، كما أن المرأة الريفية العربية والكردية ، كانت تشارك الرجل في تهبيش القمح واستخلاص الزبد من الحليب والعمل في طواحين الحبوب .. ولم يمنع المرأة الموصلية من مساعدة الرجل في سعيه الدائب نحو توفير أسباب المعيشة لأسرتهما ، أي شيء ، فكان الغزل مثلاً من أهم مهام ربة البيت ، واعتبر المجتمع الموصلي عدم معرفة المرأة بالغزل عيباًُ لا يغتفر ( ) ، وتخرج المرأة الريفية الكردية إلى الحقل مع زوجها أو أخيها لتشاركه في فلاحة الأرض ورعي الماشية أو جمع الحطب . وإذا أردنا أن نحدد مدى حريتها ونقارنها بأختها في المدينة فإنها كانت في الريف تتمتع بحرية أكبر من المرأة في المدينة ، وإلى شيء من هذا القبيل يشير مينورسكي عندما يتحدث عن المرأة الكردية الريفية فيقول،أنها كانت تجلس مع الرجال بشجاعة وبدون استحياء ، وغالباً ما كانت تشارك الرجال في الحوار ( ) .
لكن هذا لم يمنع أهالي الموصل ، أن يعترضوا على اجراءات تسجيل الإناث التي جرت في عهد الوالي مصطفى يُمني 1904 ـ 1908 ، وكادت تنشب بسبب تلك الاجراءات ثورة دامية ، ومن الطريف أن توثق لنا اليوميات السياسية للمقيمة البريطانية في بغداد وللأسبوع الذي ينتهي في 29 تشرين الثاني 1906 التظاهرات التي قامت بها جماهير الموصل احتجاجاً على اجراءات تسجيل الاناث خلال الأيام 10 ـ 15 تشرين الثاني 1906 . وعندما ألقت السلطات العثمانية القبض على قائد التظاهرات وهو محمد أبو جاسم وابت أُخته سرحان انهالت البرقيات على العاصمة محتجة على عمل الوالي، وعاد الجواب من العاصمة بأن السلطات العثمانية عازمة على معرفة حقيقة الموقف ، وسرعان ما صـدرت الأوامر للوالـي بأن يلغي اجراءاته الخاصة بتسجيل الاناث ( ) .
وحين بدأت عوامل التغيير الاقتصادي والاجتماعي والثقافي تأخذ طريقها إلى الموصل ، ظهرت فئة من المثقفين تطالب بتحرير المرأة وتأكيد مكانتها المتميزة في المجتمع. وقد استندت تلك الفئة إلى الموروث الحضاري الاسلامي الذي يولي المرأة أهمية كبيرة .. وأمام دعوات التحرير هذه وقفت بعض الفئات المحافظة والدينية موقفاً مضاداً ، وخاصةً فيما يتعلق بسفور المرأة واختلاطها بالرجال ، وهكذا عاش المجتمع الموصلي حتى الثلاثينات من القرن العشرين صراعاً عنيفاً بين متطلبات العصر والدعوة إلى تحرر المرأة وبين التقاليد الاجتماعية الموروثة ( ) .
*منشور في كتاب تاريخ الموصل الحديث للاستاذ الدكتور ابراهيم خليل العلاف ،دار الكتب للطباعة والنشر ،جامعة الموصل 2007 وقد ظهر البحث لاول مرة في كتاب الحياة الاجتماعية في الولايات العثمانية ،تونس ،1988 تحرير الاستاذ الدكتور عبد الجليل التميمي