التطور التاريخي للصحافة التركية *
بقلم :محمد الرميزان
تستعرض دراسة صدرت عن مركز الملك فيصل للبحوث والدراسات الإسلامية التطور التاريخي للصحافة التركية منذ بداياتها خلال القرنين التاسع عشر والعشرين في الإمبراطورية العثمانية، وخلال شتى الأوقات الحرجة التي مرت بها الجمهورية التركية. وتتناول الدراسة التي أعدها الباحث محمد الرميزان، أولاً مسارَ تطوُّر الصحافة والمطابع خلال المراحل الأخيرة من الإمبراطورية العثمانية. وكذلك تكشفُ الدراسة النقابَ عما كانت هنالك من انتهاكاتٍ صحفيةٍ واغتيالاتٍ لكثيرٍ من الصحفيين الأتراك وغيرهم من الشخصيات المهمّة، وعن ظهور الصحف في أوقات التحولات المصيرية؛ مثل تلك التي مرت بها تيارات التنظيمات العثمانية «الإصلاحات العثمانية» والسلطان عبد الحميد الثاني وحركة العثمانيين الشباب «تركيا الفتاة». ثانياً، تقدم الدراسة عرضاً وتحليلاً مُفصليْنِ لتطوُّر الصحافة التركية والرقابة الصحفية في أثناء بداية استقلال الجمهورية التركية، وأثناء الفترات التي تعرضت فيها تركيا للانقلابات العسكرية بعد ذلك، وفي فترات الانقسامات السياسية، والعنف الاجتماعي، والمصاعب الاجتماعية والاقتصادية. ثالثاً وأخيراً، يُسلط هذا البحثُ الضوءَ على ما آلَ إليه وضعُ الصحافة والإعلام بتركيا خلال التطورات الأخيرة.
ويقول الباحث في مقدمة دراسته إن التطور المبكِّر للصحافة التركية لَحالةٌ تستحق الدراسةَ؛ لأنها تساعدنا على فَهْم ما ارتبط بها من أحداثٍ تاريخيةٍ، وعلى توثيق التفاعلات الصحفية، وما كان هنالك من شدٍّ وجذبٍ بين الكُتاب البارزين في مقالاتهم، وتجاوُبهم مع شتى القضايا السياسية والاجتماعية والقضايا العامة. وترجعُ أصولها الأولى إلى الإمبراطورية العثمانيةِ، وإنه لَمِن المُحالِ أن نفهم وضعَ الصحافة الآن في الجمهورية التركية دون أن نقتفيَ ما اعتراها من تطوُّر منذ نشأتها أولَ مرة. وإنَّ التاريخ العثماني حافلٌ بالأحداث لكنه معقَّد؛ إذ تعود جذوره على الأقل إلى تاريخ تأسيس الإمبراطورية عام 1299، وهي فترةٌ امتدت منذ ذاك الحين حتى سقوط الإمبراطورية ومولد الجمهورية التركية الجديدة عام 1923. وقد بدأت الصحافة العثمانية (التركية) تتطوَّر في أواخر فترة الإمبراطورية في بداية القرن التاسع عشر.ويذكر الباحث أن الدراسة تتناول تاريخَ الصحافة التركية، «لكنها بطبيعة الحال يجب أن تسلط الضوء كذلك على ما شهدته هذه الأمة من أحداثٍ سياسيةٍ غير مسبوقةٍ، وما تعاقَبَ عليها من عمليات تحوُّلٍ وتغير. فعلى سبيل المثال، كان للتحول من إمبراطوريةٍ واسعةٍ تحتضن شتى الأجناس والأديان إلى جمهوريةٍ قوميةٍ أثرٌ عميقٌ على لغة الأتراك وعِرْقهم، وعلى المواطنة التركية. وقد مرَّ تطورُ الصحافة التركية بفترتينِ مختلفتين: قبل الجمهورية (العصر العثماني)؛ وبعد إعلان الجمهورية التركية».
واستند هذا البحثُ، كما جاء في الخاتمة، إلى الخلفية التاريخية، «ليستعرض مسلسلَ تطوُّر الصحافة التركية، بدءاً من إنشاء دُور الطباعة أيامَ الإمبراطورية العثمانية حتى يومنا هذا. إن تاريخ الصحافة في الجمهورية التركية لا يمكن فصلُه عن تاريخ الإمبراطورية العثمانية؛ إذ أخذت الصحافةُ التركية تشقُّ طريقها خلال أوقاتٍ حاسمةٍ، كفترة التنظيمات والإصلاحَيْنِ الدستوريَّيْن الأول والثاني في القرنين التاسع عشر والعشرين. وقد كان إدخال المطبعة أيامَ الإمبراطورية العثمانية أمراً غايةً في التعقيد؛ إذ كان كثيرٌ من العلماء والمراقبين الدينيين يرون أنها ستشوِّه الذكاء البشري وتسيء إليه، ولذلك حُظِرت، لكنها قُبِلت في وقتٍ لاحقٍ. ويُعَدُّ القرن التاسع عشر مَوْلِدَ الصحافة العثمانية أيامَ الإمبراطورية العثمانية. لكن من المهم هنا أن نلاحظ حقيقةَ أن أول صحيفة نُشِرَت في تركيا لم تكن باللغة التركية. وقد كان ظهور تيار «العثمانيين الشباب» في القرن التاسع عشر مهمّاً للصحافة والإمبراطورية سواء بسواء؛ وواصل التيار عملَه لاحقاً تحت اسم «تركيا الفتاة»، وابتدأ أولى ممارساته الصحفية مستلهماً عملَه من الغرب. وكانت جمعية الاتحاد والترقي ظاهرةً مهمّةً أعقبت الإصلاحَيْنِ الدستوريَّيْن الأول والثاني، اللَّذَيْن جاء بهما عبد الحميد الثاني، احدى الشخصيات الحاسمة في تاريخ تركيا الحديث وتاريخ الصحافة بها كذلك».
وتشير الدراسة إلى أن في سنواتٍ لاحقةٍ، بعد إعلان الجمهورية، «مرت الصحافةُ التركية بأوقات حالكة، وعانت في ظل حكم الحزب الواحد في العشرينيات من القرن العشرين، ثم أتبعها نظامُ حُكم الأحزاب المتعددة في الأربعينيات، الذي بدأت الصحافة فيه تُسيَّسُ أكثرَ، وتعاني المزيدَ من اعتقالات الصحفيين وتعليق العمل في الكثير من الصحف. ومنذ ذاك الحين، أخذت الانقلابات العسكرية تضرب البلادَ واحداً تلوَ الآخر في 1960، و1971، و1980، و1997، و2016؛ فكانت الحكومة تتجاوب بتدابيرَ كان لها بالغُ الأثر على تطوُّر الصحافة ونشاطها؛ وكانت تؤذي أعداداً كبيرة من الصحفيين وتضهدهم، وأُقيمت دعاوى قضائية على عددٍ لا حصرَ له من الكُتاب والصحفيين والمفكِّرين المبرِّزين. ومع ذلك، فتاريخ الصحافة التركية امتدادٌ لتاريخ الصحافة العثمانية، وهي صحافةٌ ظلَّت متأزمةً؛ إذ لم يكن العمل الصحفي أو الكُتّاب في مأمنٍ البتةَ. ويتجلَّى هذا في أسماء بعضِ الصحف، وتأثير الأنظمة وسلاطين الإمبراطورية العثمانية، ثم قُوى الأحزاب السياسية في الجمهورية، والاعتقالات، وحملات القمع، والدعاوى المقامة على المنظمات الإعلامية والصحف والصحفيين».
ويذكر الباحث أنه بعد إعلان الجمهورية، «أخذت الصحافة تتطوَّر أسرعَ من أي وقتٍ مضى بفضل التطورات التقنية، لكنها لم تنجُ من سطوة الرقابة التي فرضتها عليها الحكومةُ منذ عشرينيات القرن العشرين وبعدها. وكان للانقلابات العسكرية كذلك أثرٌ كبيرٌ في تقرير مصير المنصات الإعلامية. فقد جاء كل انقلاب بتغييرات عَقَّدَت الصحافةَ التركيةَ. وفي فترة الأربعينيات، حين كان نظامُ حكم الأحزاب المتعددة قائماً، سَنَّت الحكومةُ القوانين، ووضعت أساساً ينظِّم العمل الصحفي ابتغاءَ مراقبة أي أصوات ناقدة من أي معارضة محتمَلة.
لكن فترة الستينيات كانت الفترةَ النموذجيةَ للصحافة التركية، إذ بدأت تبزغُ على الساحة حينها صحفٌ تملكها عائلات؛ وكانت بعض الصحف، مثل صحيفتَي «جمهوريت» و»حُرِّيَت»، تجتذب إليها قطاعاً عريضاً من القُراء الأتراك. وفي الثمانينيات، صادفت صناعةُ الإعلام الإصلاحاتِ الاقتصاديةَ لحكومة أوزال، فتأثرت الصحافة، وعادت الرقابة تخنقُها من جديد. وشهدت التسعينياتُ والعقدُ الأول من القرن الحادي والعشرين دخولَ الشركات والاتحادات التجارية إلى المشهد الإعلامي؛ وكانت من بينها كبريات الشركات، مثل مجموعتَيْ دوغان وكاليون. وقد شهدت هذه الفترة كذلك إدخالَ الصحف الإلكترونية وغيرها من التطورات السياسية الحاسمة التي أُغْلق الكثيرُ من المنافذ الإعلامية على إثرها.
وبعد محاولة انقلاب 2016، مرت الصحافةُ السياسية بأزمةٍ عصيبةٍ أسفرت عن تعليق العمل في الكثير من المنصات الإعلامية، ناهيك عن مداهمة بعضها أو إغلاقها (مثل صحيفة «زمان»)؛ واعتُقل كذلك عشرات آلاف الأتراك من شتى القطاعات، كالصحافة والجيش والحكومة وغيرها. وكانت محاولة الانقلاب تلك نقطةَ تحوُّلٍ للصحافة التركية وللجو السياسي بتركيا. وتبقى تركيا واحدةً من أخطر دول العالم على الصحافة والصحفيين الذين تجابهُهم هناك مشقةٌ قاسيةٌ واعتقالاتٌ وصمتٌ».
_______---
*-http://www.alhayat.com
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق