مجمل تاريخ الموصل السياسي والاجتماعي للفترة
من 1959-2003
ا.د. ابراهيم خليل العلاف
استاذ التاريخ الحديث المتمرس – جامعة الموصل
غالبا ما تستفزني رسائل بعض الاصدقاء وطلبة الدراسات العليا من العراقيين وغيرهم داخل
العراق وخارجه وابادر الى كتابة موضوع يسألونني عنه واليوم وصلتني رسالة من احد
طلبة الدراسات العليا في جامعة امستردام وهو الاخ الاستاذ غفران احمد الذي يكتب اطروحة
عن ( إعادة بناء التراث والنسيج الاجتماعي في الموصل ) يطلب مني فيها ان اعطيه نبذة موجزة عن تاريخ
الموصل بين 1959 والوقت الحاضر ويقول انه اعتمد على ما كتبته عن حركة الشواف المسلحة
في الموصل في 8 اذار 1959 لكنه يحتاج الى معرفة ما مرت به الموصل بعد هذا
التاريخ .
واقول ان مدينة الموصل مرت بفترة عصيبة بعد
فشل حركة العقيد الركن عبد الوهاب الشواف آمر موقع الموصل ، وأحد اعضاء تنظيم
الضباط الاحرار والموجهة ضد حكم الزعيم عبد الكريم قاسم رئيس الوزراء والقائد
العام للقوات المسلحة 1958-1963 . وكان من مظاهر هذه المرحلة ان تسيد الحزب
الشيوعي الساحة السياسية في الموصل ، بعد سلسلة القتل والسحل لمجاميع من العناصر
القومية والاسلامية في الموصل ، واستمر الامر هكذا حتى حركة 8 شباط سنة 1963 والتي
نجم عنها اسقاط حزب البعث العربي الاشتراكي نظام حكم الزعيم عبد الكريم قاسم .
لكن مما ينبغي علي ان اذكره أمران اولهما ان
القوى القومية في الموصل ، ومعها تنظيم جماعة الاخوان المسلمين تنفست الصعداء
عندما حدثت مذابح كركوك التي قام بها الشيوعيون والتي ادانها الزعيم عبد الكريم قاسم
وقال ان المغول والتتر لم يفعلوا مثلها ، فبدأت العناصر القومية تدعم الزعيم عبد الكريم
قاسم تنعته بالزعيم العربي وترسل اليه برقيات التأييد وهذا ما شجعه على تشكيل
المحاكم العرفية لمحاكمة العناصر الشيوعية في الموصل وكركوك .
أما الامر الثاني ، فهو ان القوى القومية في
الموصل والمتمثلة بحركة القوميين العرب وحزب البعث العربي الاشتراكي ومعهما جماعة
الاخوان المسلمين شكلوا ما يمكن ان نشبهه
بالجبهة القومية والاسلامية . وكان من معالم هذه المرحلة ظهور فرقة إغتيالات من (
17 ) شابا موصليا قاموا بتصفية عدد من الشيوعيين في الموصل . كما ادت عملية الاغتيال
الى نزوح عدد من الاسر الشيوعية وعدد من المسيحيين والاكراد الذين كانوا قد
تعاونوا مع اللجنة المحلية للحزب الشيوعي العراقي في الموصل قبل وخلال حركة الشواف
1959 .
تولى متصرفية الموصل (كانت الموصل متصرفية اي
لواء ولم تكن محافظة ) بين سنتي 1960 و1968 عدد من المتصرفين الذين تمتعوا بقدرة
عالية في الادارة اذكر منهم عبد الوهاب شاكر (17-8-1959 ) والعقيد الركن عبد
اللطيف الدراجي (29-4-1961) ومدحت ابراهيم جمعة (22-4-1963) وشاكر محمود السامرائي
(9-12-1963) وسعيد الشيخ احمد ( 15-12-1965) وعبد الرحمن عبد الستار (19 8-1967)
ومعظم المتصرفين هم من القادة العسكريين ومن ذوي التوجهات القومية العربية . وخلال
هذه الفترة يغلب على الجو السياسي العام
في مدينة الموصل التوجه العروبي القومي ، المتمثل
بالقوى القومية وابرزها حركة القوميين العرب والتنظيمات الناصرية .
ولعل مما يمكنني ذكره ان السنة 1960 ، شهدت تراجع شعبية الزعيم عبد
الكريم قاسم ، وان الزعيم كان مصرا على اصدار قانون الاحزاب وصدر قانون الاحزاب (كان
يسمى قانون الجمعيات ) يوم 6 كانون الثاني سنة 1960 ولم تجز السلطات الا بعض
الاحزاب ومنها الحزب الاسلامي الذي عقد
مؤتمره الاول في 29 تموزسنة 1960 وفتح فرع
له في الموصل في حين ظلت الاحزاب القومية ومنها حركة القوميين العرب وحزب البعث
العربي الاشتراكي يمارسون نشاطاتهم بصورة سرية كما كان الامر قبل ثورة 14 تموز سنة
1958 .
ومع أنه كان في الموصل فرع ل ( حزب التحرير ) ويعمل بشكل سري إلا أن
نفوذه كان محدودا جدا ، ولم توافق وزارة
الداخلية في 27 اذار سنة 1960 على اجازته في
بغداد وظل يعمل بشكل سري .
حتى الحزب الشيوعي عاد للعمل السري ولم يكن
الزعيم عبد الكريم قاسم جادا في اتاحة الفرصة للاحزاب لكي تعمل في جو ديموقراطي
وهنا لابد لي ان اشير الى ان هناك عددا من السياسيين الموصليين تعاونوا مع الزعيم
عبد الكريم قاسم ومنهم الدكتور عبد الجبار
الجومرد اول وزير للخارجية بعد ثورة 14 تموز 1958 والاستاذ محمد حديد وزير المالية
وقد استقال الجومرد بعد فترة قصيرة لكن محمد حديد ظل مع الزعيم حتى 3 -5-1960 زكما
هو معروف فإن محمد حديد من قادة الحزب الوطني الديموقراطي هو والدكتور عبد الجبار
الجومرد وبقبول الزعيم استقالة محمد حديد تكون حكومته قد خسرت واحدا من ابرزا
اعمدتها وخاصة في الجوانب المالية والاقتصادية وثمة من يشير الى ان محمد حديد كان له دور كبير في اقناع الزعيم عبد
الكريم قاسم بتحجيم دور الشيوعيين خاصة بعد مسيلرة عيد العمال في ايار سنة 1959
والحيلولة دون سيطرتهم على اجهزة الدولة والادارة .
اصبح الجو السياسي في الموصل معاديا للزعيم
عبد الكريم قاسم واستمر ذلك حتى سقوطه وكانت الموصل ذات توجه عروبي اسلامي وكانت صور الرئيس جمال عبد الناصر رئيس الجمهورية العربية المتحدة ( مصر وسوريا
بعد وحدة 22 شباط –فبراير 1958) منتشرة بين الموصليين وكان العداء للشيوعيين قويا في الموصل بسبب
احداث الموصل بعد فشل حركة الشواف لذلك كان الموصليون مؤيدين لحادث اغتيال الزعيم
الذي وقع في 7 تشرين الاول 1959 ولاضراب البانزين في 27 اذار 1961 ولما كانت تكتبه
جريدة ( الثورة ) البغدادية لصاحبها الصحفي يونس الطائي الموالي للزعيم من مقالات ضد الشيوعيين .كما
كانت صحف قومية عربية تصدر ببغداد تجد لها قراء كثيرون في مدينة الموصل ومنها صحف
( بغداد ) و(الفجر الجديد ) وصدرت في الموصل صحف ذات توجه عروبي اسلامي منها
جريدتي ( فتى العراق ) و( الفكر العربي) .
وعندما قامت حركة 8 شباط 1963 واسقطت نظام
حكم الزعيم عبد الكريم قاسم ايدها الموصليون بكل قوة وابتهجوا بها وبدأت عناصر حزب
البعث العربي الاشتراكي وعناصر الحرس القومي التنظيم البعثي المسلح تجد لها مكانا
متقدما في الساحة السياسية الموصلية وكان ذلك على حساب تنظيمي ( حركة القوميين
العرب ) و( جماعة الاخوان المسلمين ) ,
لكن سقوط تجربة حزب البعث الاولى سنة 1963
وقيام المشير الركن عبد السلام محمد عارف بحركته الانقلابية المسلحة في تشرين
الثاني 1963 واستمراه في الحكم حتى مصرعه في حادث سقوط طائرته في 13 نيسان سنة 1966 أعاد الاعتبار للقوى
القومية العربية في الموصل فبدأت تظهر للعلن وتمارس دورها بين الجماهير وتوج ذلك
بإنضمام عدد من ذوي التوجهات القومية العربية في الموصل الى ( الاتحاد الاشتراكي
العربي) الذي تأسس في العراق وعقدت لجنته
العامة دورتها الاولى بين 22 -24 اب سنة 1964 تمهيدا لقيام الوحدة السياسية والحركة العربية الواحدة والعمل الثوري بين
العراق والجمهورية العربية المتحدة .وقد تبع كل ذلك اصدار القرارات الاشتراكية
التي صدرت يوم 14 تموز سنة 1964 وقضت بتأميم المصارف والصناعات وتنظيم مجالس ادارة
الصناعات وانشاء المؤسسة الاقتصادية التي وضع على رأسها موصلي هو الدكتور خير
الدين حسيب ، وتأميم الصحف وتقيام المؤسسة
العامة للصحافة التي وضع على رأسها موصلي هو الاستاذ غربي الحاج احمد .
وكان من القوى السياسية التي تسيدت الساحة
السياسية في الموصل ( الحزب العربي الاشتراكي ) والذي اشترك في الجبهة القومية التي تشكلت في
عهد الزعيم عبد الكريم قاسم ثم بعد حركة تشرين 1963 اندمج في الاتحاد الاشتراكي
وفي اواخر سنة 1966 خرج من الاتحاد وتعرض للانشقاق ولم يبق له اثر بعد حركة 1968
وكان من قادته الزعيم الموصلي غربي الحاج احمد
و( الحركة الاشتراكية العربية ) التي عقدت
مؤتمرها الاول في تموز 1968 .وكان كاتب هذه السطور عضوا فيها لهذا تعرض
للاعتقال في مديرية الامن العامة ببغداد سنة 1969 بعد نجاح البعثيين في انقلابهم
على حكم الفريق عبد الرحمن محمد عارف 1966-1968 في 17 تموز سنة 1968 .
وكان من الاحزاب والقوى السياسية القومية
الاخرى (الرابطة القومية ) والتي تأسست بعد ثورة 14 تموز 1958 ومن قادتها من
الموصليين عدنان الراوي ورمزي العمري وقد اندمجت الرابطة بالاتحاد الاشتراكي
العربي .
بعد قيام حركة 17 تموز سنة 1968 عين علاء الدين
البكري متصرفا للواء الموصل وباشر مهامه في 7 اب سنة1968 . وأتذكر انه عقد اجتماعا لعدد كبير من وجوه
الموصل ومثقفيها في قاعة المكتبة المركزية العامة بعد تسلمه مهامه وقال انه لابد
من إذابة الجليد في الموصل بين القوى السياسية وتحقيق نوع من الانفراج والمصالحة بين القوميين والشيوعيين واضاف انه
يكفي ما حصل للموصل من مآسي . ومن هنا اقترح تنظيم مهرجان للربيع سنويا مرة واحدة
في نيسان ويكون المهرجان شعبيا واستمر هذا المهرجان يعقد بين سنتي 1969 -2003 .
وقد حرصت قيادة حزب البعث ببغداد على أن تعين
في الموصل افضل ما لديها من العناصر لإدارة الموصل ادراكا منها لاهمية الموصل ودورها . ومن هؤلاء سعدي عياش عريم (12-1-1973) ، وفليح
حسن الجاسم ( 21-5-1974) وخالد عبد عثمان
الكبيسي (22-10 – 1975) وصبحي علي الخلف ( 9-9-1978) وأنور سعيد الحديثي (
5-4-1984 ) وطتهر توفيق العاني (
17-11-1987 ) وعبد الواحد شنان ال رباط ( مرتانالاولى 17-9-1993 والثانية 8-5-2001
) و الفريق الركن محمد عبد القادر
الداغستاني ( 13-12-1996 ) .وبين 1968و2003 كان الجو السياسي في الموصل بعثيا ،
لكن هذا لم يكن يعني غياب قوى المعارضة السرية عن الساحة السياسية في الموصل . ومن القوى التي كانت تعمل حزب الدعوة الاسلامية والحزب الشيوعي والحزب
الديموقراطي الكردستاني والاتحاد الوطني الكردستاني والحركة الاشتراكية العربية .
أسهمت الموصل في كثير من النشاطات السياسية
التي تنامت بعد حركة 17 تموز 1968 ، وتأسست
فيها فروع لكل التنظيمات العمالية والمهنية والنقابية والشبابية والنسائية
والطلابية البعثية .
واجهت القوى القومية الناصرية الكثير من
العنت من السطة البعثية ، ويتذكر كاتب هذه السطور انه عندما توفي القائد جمال عبد
الناصر في 28 ايلول سنة 1970 خرجت في الموصل مظاهرة كبيرة لكن الشرطة واجهت
المتظاهرين بالرصاص الحي مما اضطرهم الى التفرق . هذا فضلا عن ان كثيرا من عناصر
الاحزاب والقوى القومية تعرضوا للاعتقال والتعذيب .
كما كان لأبناء الموصل دور في الحرب العراقية
– الايرانية 1980 -1988 ، وقدمت الكثير من
الشهداء وكان هؤلاء الشهداء من كل شرائح المجتمع بدون استثناء وبعد انتهاء الحرب ،
واجتياح الجيش العراقي للكويت في اب سنة
1990 ونشوب حرب الخليج الثانية 1991 لم تنتفض الموصل كما حدث في كثير من محافظات
العراق في الشمال والجنوب .وقد كافئت السلطة الموصل بتنظيم حركة اعمار واسعة كما
زارها الرئيس السابق صدام حسين 1979-2003
عدة مرات واطلق عليها إسم ( مدينة
أم الرماح ) .
احتل الاميركان العراق ، ودخلوا بغداد في 9 نيسان سنة 2003 ووصلوا الموصل واحتلوها في يوم
10 نيسان 2009 .وبعد دخول الاميركان
الموصل ظهرت حركة مقاومة للمحتلين لكن بعضا ممن تعرضوا للاذى خلال النظام
السابق عملوا مع الاميركان ، وانخرطوا في فعاليات يدعمها الاميركان من قبيل تأسيس
منظمات لحقوق الانسان وبعض منظمات شبابية وصحفية وشهدت الموصل صدر اكثر من (55 ) جريدة
ومجلة وفي وضع لم تشهده حركة الصحافة الموصلية في كل تاريخها .
فيما يتعلق بالوضع الاقتصادي للموصل ، فقد
شهدت الموصل خلال الفترة من 1965 وما بعد ذلك بعض التطورات المهمة في بنيتها الاقتصادية
وتوسعت فيها مشاريع مهمة من قبيل توسيع معمل الغزل والنسيج القطني في الموصل ، وانشاء
عدد من الجسور ، وتبليط كثير من الطرق وتحديث البنية الاقتصادية وانشاء مشروع ري
الجزيرة ، وفتح مشاريع وحقول للدواجن
ومعامل للحليب والمشروبات الغازية والكحولية ، وبناء عدد من السايلوات وتأسيس بنوك
ومصارف وتوسيع وتطوير شبكات الماء والكهرباء وانشاء سد الموصل . فضلا عن اقامة
الكثير من مشاريع الاسكان من خلال الجمعيات التعاونية .كما شهدت الموصل تطوير جامعة الموصل التي تأسست
سنة 1967 ووصل عدد كلياتها الى ( 22 ) كلية فضلا عن عدد من المراكز البحثية . وفتحت في الموصل محطة لتلفزيون الموصل سنة
1969 وازدهرت حركة المسرح الموصلي وتطورت الحركة التشكيلية وفتح فرع للاتحاد العام
للادباء والكتاب العراقيين وعدد كبير من الجمعيات والنقابات والاتحادات المهنية
وتطورت محطة قطار الموصل ومطار الموصل وازدهر التعليم وفتحت مراكز لمحو الامية في
القرى والمدن والقصبات الموصلية كما ازدهرت الحركة الرياضية والشبابية والكشفية
والثقافية والفنية والنسوية والصحفية والمكتبية .
وتأسست الكثير من المستشفيات والمستوصفات والمراكز
الصحية داخل الموصل وضمن محافظة نينوى .كما فسح المجال قبل الاحتلال بسنوات لاقامة
مشاريع خاصة في مجال المدارس الخاصة والمستشفيات الخاصة والكليات الجامعة والجمعيات العلمية والتاريخية والفنية .
فيما يتعلق بالتاريخ الاجتماعي للموصل خلال
هذه الفترة استطيع ان اقول ان المجتمع الموصلي معروف بإنسجامه مع بعضه مع انه يضم
العرب ، والاكراد ، والتركمان ، والشبك ، واليزيدية ، والكاكائية . كما انه يضم مسلمين ومسيحيين وكان يضم يهودا قبل سنة 1950 ، والتلاحم بين
الموصليين كان ولايزال طيلة عهود التاريخ كبيرا .
لكن مما يؤسف له ان السلطة الحاكمة ، ونتيجة لبعض المواقف السياسية لبعض الشرائح
الاجتماعية في الموصل وبتأثيرات من بعض الاحزاب السياسية وخاصة المعارضة لحكم البعث ولوجود الحركات المسلحة الكردية في مناطق
كردستان العراق ضد الحكومة في بغداد ، دخلت
في صراعات مع عدد من الاكراد والشبك والكاكائية واليزيدية
والتركمان وحتى بعض العشائر
العربية التي انخرط بعض افرادها في تنظيمات معارضة لحكم النظام السابق نظام البعث ونالت هذه الشرائح
الكثير من حالات العنت والاضطهاد بسبب مواقفها المعادية لنظام الحكم وهذا انعكس
سلبا على الوضع الاجتماعي في الموصل وكانت له نتائجه في مجالات الترحيل ، والهجرة ،
والنزوح من القرى والاماكن التي تعيش فيها .
لكن هذا لم يغير من طبيعة العلاقات بين هذه
الشرائح على المستوى الشعبي ولم تظهر أي حالات للعداء بين الموصليين .