مذكرات صحفي تركماني
" الحلقة الخامسة "
دور رجال التربية والتعليم التركمان في خدمة القضية التركمانية*
بقلم : الاستاذ حبيب الهرمزي
عندما شرعت بكتابة هذه الحلقة من "مذكرات صحفي تركماني" استعرضت في ذهني أسماء رجال التربية والتعليم الذين قدموا اجل الخدمات للشعب التركماني في العراق بل وضحى بعضهم بنفسه في مجال خدمة قضيتهم، وفوجئت بحقيقة تجلّت امامي وهي ان معظم من برزوا في هذا الطريق الملئ بالنضال والعنت والتضحية كانوا من رجال التعليم والتربية. وبدأت باستعراض اسماء من هؤلاء الابطال الذين عاصرت او زاملت القسم الكبير منهم او شاطرتهم في هذا المضمار.
كان أول من عرفته من رجال التعليم الأجلاء في بداية حياتي الدراسية هو المرحوم الاستاذ "محمد علي البياتي" الذي كان مديرا لمدرسة داقوق الابتدائية يوم ان كنت طالبا فيها في الصف الثاني الابتدائي وكنت في السادسة من عمري انذاك، وهو الذي علمني القراءة والكتابة، ثم شاءت الاقدار ان انشر له قصائده الشعرية في مجلة "الأخاء" الغراء في الستينات والسبعينات من القرن الماضي اذ كان "استاذي" هذا شاعرا بليغا يقرض الشعر بلغة تركية بليغة.
وعندما انتقلت الى الدراسة المتوسطة والثانوية كان المرحوم "قاسم بك الصالحي" هو الذي علّمني اللغة العربية وهو الذي علّمني حب قراءة مؤلفات مشاهير الأدباء العرب. وقد تخرّج على يد هذا الاستاذ الضليع في آداب اللغة العربية مئات من ابناء ذلك الجيل وكان له الفضل في تنشئة جيل هم الآن او كانوا رواد الحركات الادبية والفكرية في المجتمع التركماني[1].
ولعل اقدم "معلم" تركماني تسعفني عنه ذاكرتي هو الشاعر التركماني الكبير "هجري دده" الذي كان معلما في كركوك قبيل الحرب العالمية الأولى ومن ثم معلما للأدب التركي والفارسي بكركوك[2] ومديرا لجريدة "كركوك"[3]، والذي يمكن ان يلقّب بشيخ الشعراء التركمان بعد الشاعر التركماني العظيم "فضولي". ومن منا يستطيع ان ينسى العالم والأديب واللغوي التركماني الكبير الدكتور مصطفى جواد، او أمين عام الدار الوطنية للوثائق الدكتور ياسين عبد الكريم او الفنان العظيم استاذ اساتذة فن النحت في العراق فتحي صفوت قيردار، او رئيس مركز البحوث الجنائية والاجتماعية والاستاذ في كلية الشرطة الدكتور أكرم نشأت ابراهيم، او البروفيسور الدكتور احسان دوغراماجي الذي أسس بجهوده أكبر جامعتين في تركيا، او الشاعر والفنان الدكتورسنان سعيد، او المجاهد والخطاط والرسام والشاعر ومعلم الأجيال محمد عزت خطاط، او الرسام البارع محمد مهدي طوزلو، او زعيم الحركة الشبابية التركمانية الذي ضحى بنفسه فداء لوطنه وقوميته الشهيد الدكتور نجدت قوجاق، او نهاد آق قويونلو الذي قضى زهرة شبابه في سجن ابو غريب لإخلاصه لوطنه وقوميته، او عبد القادر سليمان معلم الأجيال ورئيس نادي الأخاء التركماني ورئيس تحرير مجلة الأخاء لفترة طويلة والذي فصلته السلطة الغاشمة من النادي ومنعته من دخول النادي هو واقاربه الى الدرجة الرابعة لأنه كتب سلسلة مقالات في مجلة "الأخاء" بعنوان " كل لسان بإنسان - كيف تتعلم اللغة التركية" ولأنه ألقى محاضرة ثقافية في نادي الأخاء التركماني[4] ، او روّاد الحركة الرياضية في كركوك الاساتذة احمد جلال وكمال عبد القادر وعزالدين مجيد، بل من يستطيع ان ينسى ما قدمه للفن والثقافة والادب التركماني من اساتذة كبار مثل عبد الرحمن بكر وفاتح مصطفى وحقي الهرمزي واكرم طوزلو ووحيد الدين بهاء الدين وخورشيد كاظم البياتي وشقيقه رشيد كاظم البياتي وجلال عزيز النقيب ومولود طه قاياجي وخضر لطفي ورشيد عاكف الهرمزي والدكتور صفاء خلوصي وموسى زكي مصطفى وهاشم قاسم الصالحي وقحطان الهرمزي والشاعر عزالدين عبدي البياتي والشاعرصلاح نورس ونجيب دميرجي. وهذا غيض من فيض وبعض قليل ممن اسعفتني ذاكرتي لسرد اسمائهم من بين العشرات والمئات من رجال التربية والتعليم التركمان الأجلاء الذين كان لهم دور عظيم في تنشئة اجيال من الشباب التركماني.
ولعل من المفيد وأنا اتطرق الى الأدوار المجيدة لهؤلاء الفطاحل، ان أسرد بعض الوقائع التي ساهم فيها هؤلاء الأبطال ليكون ذلك تذكرة لشباب هذا الجيل من التركمان وحافزا لهم ليحتذوا حذو من سبقوهم في هذا الدرب الطويل من النضال الهادف الى نيل الشعب التركماني حقوقه التي اقرتها له مواثيق الاعلان العالمي لحقوق الانسان وسائر المواثيق والاتفاقيات والمعاهدات الدولية بعد الأحداث الأليمة التي مرت بالتركمان وبجميع شرائح الشعب العراقي طوال تاريخ دولة العراق.
نفي المعلمين التركمان الى الجنوب
اظهر المثقفون التركمان موقفا مناهضا للاحتلال الانكليزي للعراق في اوائل القرن العشرين، ولم يقبلوا بتنصيب الأمير فيصل ملكا على العراق وصوتت كركوك ضد الاستفتاء الذي جرى بهذا الصدد، مما ادى الى قيام سلطات الاحتلال والنظام الملكي باجراءات مشددّة ضد الشعب التركماني شملت الحرمان من الوظائف الحكومية ومنع التدريس بلغة الأم والتضييق على رجالات التركمان. وكان على رأس من قادوا حملات المناهضة هذه ثلة طيبة من المعلمين الذين كانت لهم مواقف مشرّفة في هذا المجال. وعمدت السلطة البريطانية الى القاء القبض على عدد من المعلمين الشباب وتم نفيهم الى المناطق الجنوبية حيث اضطروا الى الاقامة الاجبارية سنينا عديدة في تلك المناطق. وكان على رأس هذه الكوكبة الطيبة سعد الله المفتي (الملقب دايي سعد الله) حيث جرى ابعاده الى بغداد، والشاعر رشيد عاكف الهرمزي الذي ابعد الى البصرة والأستاذ حسين فهمي الصالحي الذي ابعد الى بعقوبة، والأديب عرب فهمي الذي ابعد الى الحلة. وقد احدث نقل هؤلاء المبعدين من كركوك بالطائرة ضجة كبيرة لدى اوساط الشعب الذي لم يكن قد اعتاد على رؤية الطائرات بله الركوب فيها بل ونقلهم بها الى المنفى. ولم يستطع هؤلاء الابطال العودة الى مدينتهم وعوائلهم الا بعد سنين عديدة قضوها في المنفى.
انتخابات نقابة المعلمين لعام 1959
شهد العراق في بداية العهد الجمهوري الذي قام فور اعلان الثورة على العهد الملكي بتاريخ الرابع عشر من تموز/ يوليو لعام 1958حركة ديمقراطية تمثلت في افساح السلطة المجال لقيام منظمات المجتمع المدني من جمعيات ونقابات ومنظمات شعبية، وشهدت تلك الفترة انتخابات حرة لتشكيل الهيئات الادارية لتلك المنظمات.غير ان نسائم الحرية التي هبت بعد قيام الثورة لم تستمر طويلا، اذ هيمن الحزب الشيوعي على كافة مفاصل الدولة وسيطر على تلك المنظمات واقام المئات من تشكيلات الحزب تحت مسميات عديدة منها منظمة انصار السلام واتحاد الشبيبة الديمقراطي ونقابات العمال ورابطة الدفاع عن حقوق المرأة والمهندسين الديمقراطيين والمعلمين الديمقراطيين ولجنة صيانة الجمهورية وغيرها. وحاول الحزب الشيوعي فتح قناة تفاهم او اقامة شكل من التعاون او التحالف مع المكوّن التركماني، غير ان تلك المحاولات انتهت بالفشل، وكان من الطبيعي "ان يتخذ التركمان موقعهم بصورة تلقائية الى جانب التيار القومي العربي في الصراع الدائر بين التيارين العربي القومي والشيوعي"[5]
وكان المكتب التنفيذي للهيئة المؤسسة لنقابة المعلمين في العراق قد قرر اجراء انتخابات بتاريخ 26 كانون الأول/ ديسمبر 1958 في عموم العراق لانتخاب اللجان التحضيرية التي ستتولى الاشراف على انتخابات نقابات المعلمين في كافة المحافظات (كانت تسمى الألوية آنذاك). وتقرر قيام معلمي ومدرسي محافظة كركوك بانتخاب اللجنة التحضيرية تحت اشراف مدير التربية والتعليم، وان تتكون اللجنة التحضيرية من ستة اعضاء على ان يمثّل فيها العنصر النسائي. وجرت الانتخابات في قاعة جمعية الهلال الأحمر وفاز بعضوية اللجنة ستة اعضاء كلهم من التركمان وهم: فاضل الساقي – معاون مدير ثانوية المصلى (498 صوت)، واديب ابراهيم دباغ – معلم في مدرسة النجاح الابتدائية (498 صوت) ، وموسى مصطفى – مدير مدرسة المنصور الابتدائية (493 صوت)، وربيعة محمد علي البياتي – مدرسة في متوسطة كركوك للبنات (492 صوت)، وامجد بهاء الدين – معلم في مدرسة القلعة الأولى (487 صوت)، وعادل طه – معاون مدرسة الوثبة للبنين (482 صوت).
وعلى إثر ذلك تشكلت قائمتان منافستان لخوض انتخابات نقابة المعلمين، واجتمع كافة رجال التربية والتعليم التركمان في كركوك واتفقوا على اسماء قائمة التركمان لعضوية نقابة المعلمين بكركوك. وكانت القائمة التركمانية تضم عشرين اسما جميعهم من التركمان. واصدرت القائمة بيانا الى اسرة التعليم في محافظة كركوك تم نشره في جريدة "البشير" التي كانت تصدر انذاك في كركوك[6] جاء فيه ما يلي:
" إنّ ثقتكم بنا واعتمادكم علينا وتأكدنا من مؤازرتكم لنا قد شكّل قوة عظيمة دفعتنا الى خوض معركة حرة شريفة، معركة انتخابات اول وأكبر نقابة للمعلمين في الجمهورية العراقية المفداة في عهدها الزاخر الميمون، وان فوزنا فيها نصر لكم ولقوى الخير المتمثّلة في ابناء الشعب المخلصين وفيكم انتم من قادة الفكر وحملة مشاعر الحرية والنور في هذا الوطن الحبيب. إنّ التفافكم حولنا وتأييدكم لمرشحينا تدعيم للكيان الجمهوري العظيم لأنّهم منكم واليكم ولأنّهم يعاهدون الله والوطن على ان يكرّسوا جهودهم في خدمة البلاد، فهلمّوا الى انتخابات مرشحينا بروح عالية وفي جو هادئ وديمقراطي سليم."
وجرت الانتخابات في يوم الجمعة المؤرخ 23 كانون الثاني/ يناير 1959 في قاعة ثانوية كركوك للبنين تحت اشراف العقيد محمد علي الكمالي ممثلاً عن الجيش وجواد الجصاني ممثلاً عن وزارة التربية وزكي الراوي وغضبان الرومي ممثلي الهيئة المؤسسة لنقابة المعلمين في بغداد، واللجنة التحضيرية للنقابة، وحضرعملية الانتخاب ممثلون عن المرشحين للقائمتين المتنافستين. وشارك في عملية التصويت 900 معلما ومدرسا.
جرت عملية الانتخاب بشكل ديمقراطي سليم وبحياد تام، والدليل على ذلك ان القائمة المنافسة لم تدّع بوقوع اي تزوير او مخالفة في عملية التصويت، كما ان قيادة الفرقة الثانية التي اشرفت على الانتخابات عن طريق ممثلها في اللجنة المشرفة سجلت سلامة الانتخابات بكتاب رسمي وجهته الى الحاكم العسكري العام في بغداد وورد فيه ما نصه : " لقد جرى انتخاب نقابة المعلمين في اللواء باشراف الهيئة التحضيرية للنقابة ومساهمة قيادة الفرقة بارسال ممثل عنها حسب طلب الادارة المحلية وارسلنا العقيد محمد علي الكمالي مشرفا، وجرى الانتخاب دون ان يتدخل مدير التربية مطلقا كما انه وضع ورقة بيضاء حتى يثبت عدم ميله لجانب دون جانب، وانتهت اللجنة بفرز الأصوات وانتخاب لجنة نقابة معلمي كركوك الأصلية المنوه عنها اعلاه دون تدخل من اية جهة كانت"[7].
فاز بنتيجة الإنتخابات السادة المذكورة أسماؤهم أدناه بالأكثرية الساحقة حسب الأصوات المدرجة إزاء أسمائهم : فاضل الساقي السامرائي – معاون ثانوية المصلى (603 صوت) ، حقي جميل الهرمزي – مدير الوثبة للبنين (590 صوت) ، نجيب احمد دميرجي – مدرس ثانوية المصلى (574 صوت) ، عمر موفق شفيق – مدرس الشرقية الإعدادية (578 صوت) ، عادل طه – معاون الوثبة للبنين (578 صوت) ، موسى زكي مصطفى – مدير المنصور للبنين (694 صوت) ، هاشم قاسم الصالحي – معلم الخاصة للبنين (576 صوت) ، أديب إبراهيم الدباغ – معلم النجاح للبنين (604 صوت) ، أحمد سيد محي الدين – معلم الشورجة للبنين (572 صوت) ، بطرس كمّوش – معلم السلام للبنين (585 صوت) ، أحمد حمدي باقر – معلم الفتوة للبنين (570 صوت) ، إبراهيم رفيق – معلّم تسعين للبنين (562 صوت ) ، رشيد بهجت – معلّم العراقية للبنين (558 صوت) ، كمال محمد حبيب – معلّم المأمونية للبنين (552 صوت) ، نجدة مصطفى يعقوبي – كاتب في مديرية التربية والتعليم (555 صوت) ، ربيعة محمد علي البياتي – مدرسة متوسطة كركوك للبنات (588 صوت) ، تريزا فرج هندي – معلّمة العزة للبنات (584 صوت) ، مديحة احمد جميل – معلمة المركزية للبنات (587 صوت) ، أديبة علي فؤاد – معلمة روضة الفتوة (573 صوت) ، مصطفى كمال عبد الله – كاتب ذاتية مديرية التربية (593 صوت)
وبعد هذا النجاح الساحق للقائمة التركمانية، سافر اعضاء النقابة الى بغداد للقاء رئيس الوزراء عبد الكريم قاسم، والقى ممثل النقابة فاضل الساقي بالنيابة عن اعضاء نقابة المعلمين كلمة امام رئيس الوزراء ورد فيها باختصار: " بإسم لواء الذهب الأسود وبإسم شهداء الحرية في مجزرة كاور باغي وبإسم أهالي كركوك وبإسم أعضاء نقابة المعلمين في اللواء كافة احييكم بأجمل تحية وابارك لكم تفانيكم في سبيل الشعب واخلاصكم في خدمة جمهوريتنا الحبيبة وتصميمكم على رفع مستوى التعليم في البلاد. إنّ الحفاظ على جمهوريتنا من عبث الإستعمار والاعيبه الدنيئة لمسؤولية مشتركة مقدّسة تقع على عاتق كل فرد من افراد الشعب على إختلاف قومياتهم وديانتهم، ونعلن اننا افراد اسرة التعليم سنكون عند حسن ظنّكم وظن الشعب وسنداً قوياً لكم وسنشارككم تحمّل الأعباء الثقال في ميدان عملنا في هذه الظروف الحاسمة التي يمرّ بها شعبنا العظيم بمختلف طبقاته وقومياته. وهنا لابُدّ أن نشير ونحن نتشرّف بمقابلتكم الى أهمية الدور الذي يقوم التركمان العراقيّون ومنهم كثير من اسرة التعليم – اشير الى إخلاصهم لجمهوريتهم وتفانيهم في خدمتها فقد احتضنوا الثورة منذ لحظاتها الاولى ولاعجب فهم مواطنون عراقيّون تربطهم مع اخوانهم بقية ابناء الشعب المصالح الواحدة والأهداف الواحدة والوطن الواحد والمصير الواحد. نرجو ان تعلموا يا سيادة الزعيم انّ التركمان العراقيين الذين هضمت حقوقهم في العهد البائد لعلى ثقة تامّة من انّهم يعيشون بكل حرية وإطمئنان وسيتمتعون بحقوقهم المشروعة التي ضمنتها الثورة ومبادؤها السامية. عاشت وحدة الشعب العراقي على إختلاف قومياته وعاشت نقابة المعلمين سنداً قوياً لجمهوريتنا الديمقراطية ".
والغريب انه حيل بين وفد النقابة من مقابلة عبد الكريم قاسم وادخل وفد آخر غير مسؤول وهو الوفد المزيف الذي سافر الى بغداد واجرى المقابلة باعتباره وفد نقابة المعلمين الحقيقي، وقدم هذا الوفد المزيف جملة مطاليب مع خطاب تحريري بإسم النقابة المزيفة[8]، ولما اتضح الأمر لدى عبد الكريم قاسم وافق على مقابلة الوفد الاصلي عصر اليوم نفسه ونجم عن ذلك " رد اعتبار النقابة الأصلية لدى هيئة معلمي لواء كركوك وسكانها، وكانت النتيجة مرضية ومطمئنة لممثلي نقابة كركوك الحقيقيين"[9].
نضال المدرسين أدىّ الى نقلهم الى الجنوب
بعد أشهر قليلة من قيام ثورة الرابع عشر من تموز في العراق، ساءت الأوضاع السياسية في كركوك وسائر المناطق التركمانية خاصة وفي العراق عامة. فقد حاول زعيم الثورة عبد الكريم قاسم ان يقف امام القوى القومية العربية التي كانت تسعى للوحدة السياسية مع جمهورية مصر، ولم يجد امامه من حل غير الاستناد على القوى اليسارية في البلاد، فبدأت شوكة الحزب الشيوعي والشيوعيين بالازدياد وصعد نجمهم السياسي، فكان المد الشيوعي الذي اكتسح كافة مرافق الحياة السياسية واغلب المرافق الحكومية، وبدأ الشيوعيون يسيطرون على الجيش وعلى الجمعيات والنقابات ومرافق التعليم والتدريس. ولما لم يستجب الشعب التركماني لهذه الموجة العارمة ووقف ببسالة امام اطماع الشيوعيين في السيطرة على الدولة، فقد اعتبروا فئة تسعى ضد مصالح الشعب وتناصر الاستعمار الاجنبي. وهكذا الصقت تهم الطورانية والخيانة بالتركمان، وبدأ الشيوعيون بتضييق الخناق عليهم في كل المرافق. وبدأ الصراع بين التركمان وبين الفئات اليسارية والشيوعية على اشغال ادارات منظمات المجتمع المدني واتحادات الطلبة والنقابات، وجرت الانتخابات في هذه المرافق، واذا بالتركمان يكتسحون القوائم الأخرى ويفوزون في كركوك بانتخابات اتحاد الطلبة في جميع المدارس المتوسطة والثانوية ولجنة ارتباط اتحاد الطلبة وبانتخابات نقابة المعلمين وغرفة المحامين وجمعية الهلال الأحمر ونادي الموظفين. فثارت ثائرة الشيوعيين على هذه النتائج التي خذلوا فيها في هذه المدينة.
ولأهمية دور رجال التربية والتعليم في خلق الجيل الجديد من الشباب، فقد بدأ حقد الشيوعيين ينصبّ على هذه الفئة اولا ثم اتسع الأمر ليشمل كافة المثقفين والشباب ورجال العلم والتجار والمحامين والأطباء على النحو الذي سنبحث عنه لاحقا.
حاول الشيوعيون الضغط على المعلمين والمدرسين بنقل الاداريين من مدراء ومفتشين الى وظائف التدريس، ولجأوا بعد ذلك الى استصدار الأوامر من وزارة التربية بنقل الناشطين من رجال التربية والتعليم التركمان الى خارج مناطق اقامتهم وعملهم. وبدأ الأمر بصدور اوامر نقل أربعة من مدرسي ثانوية الصناعة بكركوك الى مدارس خارج المحافظة، وهم عبد الله ترزي باشي وعمر علي كوبرولو وصبحي علي فؤاد وعلوان حمزة. وازاء الاستياء الشعبي الكبير على ابعاد التركمان، تم الغاء اوامر النقل. غير ان السلطة عادت ونقلت نفس المدرسين مرات ومرات، وكان الأمر يلغى في كل مرة نتيجة التدخلات ولدرء الغضب الجماهيري. ولما تكرر الأمر فقد قدّم هؤلاء المدرسين استقالتهم من وظائفهم مفضّلين البقاء في مدينتهم كركوك على الابتعاد عنها. ولما وصلت عرائض الاستقالات الى وزارة التربية، تراجعت الوزارة ورفضت الاستقالات من جهة والغت أوامر النقل من جهة اخرى. وهكذا انتصرت الارادة الشعبية على الالاعيب السياسية وقوبل الخبر بارتياح كبير لدى المواطنين التركمان[10].
مؤتمر المعلمين الأول الحدث المهم في تاريخ التربية التركمانية
عقد المؤتمر المحلي الأول للمعلمين التركمان بقاعة سينما اطلس في مدينة كركوك بتاريخ 28 اغسطس 1960 واستمر انعقاده ثلاثة ايام. واشترك فيه العشرات من المعلمين والمدرسين من كركوك، اضافة الى مشاركة وفود كبيرة من المعلمين القادمين من الموصل واربيل وتلعفر وطوزخورماتو وكفري والتون كوبري وداقوق وقزلرباط وخانقين وبدرة. وافتتح المؤتمر بكلمات وزير التربية اسماعيل العارف والسكرتير العام لنقابة المعلمين الدكتور صفاء الحافظ ونقيب المعلمين في كركوك حقي الهرمزي، وورد الى المؤتمر مئات من برقيات التأييد والتهنئة من كافة انحاء العراق ومن خارجه.
قدم في المؤتمر اوراق عمل هامة تتناول قضايا التعليم، كما تم تشكيل لجان عمل متعددة هي لجنة المناهج والكتب ولجنة المدارس الرسمية والاهلية ولجنة مكافحة الأمية ولجنة التعليم الجامعي ولجنة التأليف والترجمة والنشر، واصدرت كل لجنة من هذه اللجان مقررات هامة تتعلق بمواضيعها[11].
أصدر المؤتمر في ختام انعقاده قرارات وتوصيات هامة وفي مقدمتها تدريس اللغة التركمانية (الصحيح هو "اللغة التركية") في المدارس الابتدائية بالمناطق التركمانية، وتخصيص مقاعد كافية للطلبة التركمان في الجامعات وفي البعثات الدراسية خارج البلاد، وتأسيس مطبعة خاصة لطبع ونشر الكتب باللغة التركمانية، واصدار مجلة باللغتين العربية والتركمانية من قبل نقابة المعلمين.
وتأتي أهمية هذا المؤتمر في انها وضعت اللبنة الأولى للقرارات التي تلتها والتي منها قرار إقرار الحقوق الثقافية للتركمان في عام 1970، والمباشرة بفتح المدارس التركمانية بعد زوال العهد الصدامي في عام 2003، وتأسيس المديرية العامة للدراسة التركمانية ضمن ملاك وزارة التربية في عام 2012.
رجال التربية والتعليم يساندون الاحتجاجات على الغاء الدراسة التركمانية
كان للاجراءات التعسفية التي طبقها النظام البائد في مجال الغاء الدراسة التركمانية، رد فعل واسع وعنيف لدى طبقات الشعب التركماني ومثقفيه ولدى رجال التربية والتعليم بالاخص. وقد ساند الكثير من المعلمين والمدرسين الاضراب العام للطلبة احتجاجا على ذلك القرار والذي بدأ في كركوك ثم انتشر الى جامعات الموصل وبغداد والسليمانية[12]، ووصل الأمر الى استقالة العديد من المدرسين من نقابة المعلمين بكركوك كتعبير عن سخطهم على هذا الإجراء. فقد قدم كل من الاساتذة عزالدين عبدي بياتلي وغازي عبد القادر النقيب وسعاد سعيد اق قويونلو وصباح رشاد وحسين احمد الحكيم استقالاتهم من نقابة المعلمين على النحو المذكور اعلاه[13].
ولم تكتف السلطة باعتقال العديد من طلاب المدارس على خلفية اضراب الطلبة، بل عمدت الى اعتقال وتعذيب الكثير من المعلمين والمدرسين الذين كان لهم ولغيرهم دور اساسي وكبير في نجاح الاضراب. وكان من بين المعتقلين في سراديب مديرية الأمن الاساتذة: نجم الدين ونداوي وياسين جميل ارسلان وقحطان الهرمزي ومولود طه قاياجي وحسن النفطجي ومحمد مخلص وعدنان صقاللي وخالد محمد رمضان ونهاد خليل وصلاح علي. وكان للعنصر النسائي التركماني دور مهم ايضا في مساندة الاضراب، اذ ساهمت المعلمات والمدرسات والمفتشات التركمانيات في انجاح ذلك الاضراب. وعلى سبيل المثال فان الست وفيقة النقيب (ابنة قاضي كركوك ابراهيم النقيب) التي هي اول مفتشة تربية من العنصر النسائي في كركوك، كانت قد انيطت بها مهمة تفتيش المدارس التركمانية التي افتتحت تنفيذا لقرار منح الحقوق الثقافية للتركمان. وعندما اغلقت السلطات المدارس التركمانية، وهو القرار الذي أدى الى اضراب الطلبة الذي تطرقنا اليه، رفعت الست وفيقة تقريرا الى وزارة التربية اوضحت فيه الغبن الذي لحق وسيلحق بالطلاب والطالبات جراء الغاء التدريس بالتركمانية في المدارس الابتدائية. وردت الوزارة على ذلك بنقل مقدمة التقرير الى وظيفة "مفتشة" مع تجريدها من صلاحياتها عقابا لها على رفعها ذلك التقرير!
اما في العهد الصدامي (1968 – 2003) فقد نال رجال التربية والتعليم التركمان النصيب الأوفى بين من تم تشريدهم ونفيهم واعتقالهم واعدامهم وقتلهم[14]. ولم يميز النظام بين من كان اتجاهه اسلاميا او قوميا، فقد وجهت الى المئات من المعلمين والمدرسين تهم العمالة الى الأجنبي تم على اثرها اعتقالهم واخضاعهم لصنوف من التعذيب والتنكيل ومن ثم اعدامهم. وكان هنالك العديد من المعلمين والمدرسين الذين قتلوا ظلما وعدوانا عند دخول قوات النظام البائد الى ناحية التون كوبري عام 1991، او اعتقلوا ولم يظهر لهم أثر الى الآن عند دخول تلك القوات الى اربيل في نفس ذلك العام.
ان ما اوردناه اعلاه كان لمحة بسيطة عن دور رجال التربية والتعليم التركمان في النضال السياسي للشعب التركماني في العراق ومساهمتهم الفعالة في المجالات الثقافية والأدبية والاجتماعية التركمانية. والى حلقة قادمة بإذن الله.
· نشر هذا المقال في العدد 279 - 280 من مجلة الأخاء الصادرة ببغداد بتاريخ كانون الثاني/ يناير – شباط/ فبراير 2013.
[1] - لمزيد من المعلومات حول استاذنا "قاسم بك الصالحي" انظر: وحيد الدين بهاء الدين، وجوه تركمانية في رحاب الثقافة والصحافة، بغداد – 2008، ص 134
[2] - كان هجري دده معلما في مدرسة سلطاني "سلطاني مكتبي" في الفترة من 1915 والى 1918، ومعلما في مدرسة دار الفلاح بقلعة كركوك حتى عام 1925 . انظر "جانلي سوزلر – شاعر هجري دده، اعداد: فائق هجري دده، كركوكك- 2003 ، ص 7، وانظر: مير بصري، اعلام التركمان والأدب التركي في العراق الحديث، لندن – 1937، ص 34.
[3] - تولى هجري دده وظيفة رئاسة تحرير جريدة :كركوك" بتاريخ الاول من نيسان/ ابريل 1928 . انظر نفس المصدر والصفحة.
[7] - تم توجيه هذا الكتاب المرقم 56/ 363 والمؤرخ 14/15 شباط 1959 بتوقيع قائد الفرقة الثانية الزعيم الركن ناظم الطبقجلي. انظر: مذكرات الطبقجلي وذكريات جاسم مخلص المحامي، الطبعة الثانية، بغداد 1985، ص 422.
[8] - سلّمت النسخة الأصلية من الخطاب والمطاليب الى الوفد الأصلي خطأ من قبل المعلمة "وفية ابو قلام" واتضح الأمر بهذه الصورة. انظر نفس المصدر، ص 420.
[11] - انظر نصوص مقررات هذه اللجان وتفاصيل اخرى حول المؤتمر: ارشد الهرمزي، التركمان والوطن العراقي، الدار العربية للموسوعات – بيروت، الطبعة الثالثة المنقحة، 2005، ص93. وانظر بعض التفاصيل الأخرى عن المؤتمر: وحيد الدين بهاء الدين، المرجع السابق، ص 175.
[12] - اوضح الدكتور مردان حميد القطب في رسالة بريدية الكترونية بعث بها الى كاتب المقال تعليقا على الحلقة الرابعة من هذه المذكرات التي كانت بعنوان "بدايات نشوء الحركات الطلابية التركمانية" ما يلي: كنت طالبا انذاك في جامعة السليمانية وكان لنا دور في المشاركة في الاضراب، ورغم ان الجامعة كانت في عامها الثالث وكانت فيها ثلاث كليات فقط ( عدد الطلبة التركمان 50- 60 ) فقد تضامنا مع ابناء شعبنا في تلكم الحركة وامتنعنا عن الدوام بل وقمنا بمسيرة وبشكل ملفت لانظار جميع الطلبة في شارع الجامعة الرئيسي. واستطيع ان اقول اننا لقينا تأييدا من الطلبة الاكراد. ان هذه المشاركة تدل على الاتصال والتضامن بين طلبة الجامعات انذاك في توحيد الحركة، حيث كانت هناك زيارات ولقاءات بينهم خلال الزيارات الى بغداد. وقامت قوات الامن في مدينة السليمانية بالقاء القبض على الزميل علوان كوبرلو باعتباره احد رموز الحركة الطلابية في الجامعة وكذلك التحقيق مع الدكتور احسان شفيق دميرداغ ، اما الزميل هلال عبدالرزاق فقد حمته الطلبة الاكراد في مكان أمن.
[13] - انظر حول ذلك: فلاح يازار اوغلو، "من الشخصيات التربوية التركمانية" ، مجلة الفنار، العدد 66، السنة التاسعة، مايس 2012، ص 7.
[14] - انظر قائمة بأسماء من قتلوا رميا بالرصاص في التون كوبري:Tarihi Gelişim İçinde Irak’ta Türkmen Varlığı, İstanbul 1996, S. 251Ç Suphi Saatçi, . وانظر قوائم بأسماء الشهداء في الصفحات 124 – 145 ، أرشد الهرمزي، التركمان والوطن العراقي، كركوك – 2003. وانظر دراسة مفصلة عن الشهداء التركمان: الاتحاد الاسلامي لتركمان العراق، الشهداء التركمان – صفحات من التاريخ المعاصر لتركمان العراق، دار الدليل للصحافة والنشر،الجزء الأول – 1999.
_________________________________________
___________________________________________
*http://www.afkarhura.com/index.php?option=com_content&view=article&id=9497:2014-03-31-15-54-38&catid=1:akbar&Itemid=
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق