الجمعة، 26 ديسمبر 2014

براءة بقلم : الاستاذ سامي مهدي

براءة
بقلم : الاستاذ سامي مهدي 
الأنظمة الإستبدادية ، بمختلف أشكالها وهوياتها ، تتفنن في أساليب قمع المواطن المعارض ، وهي تتعلم هذه الأساليب بعضها من بعض ، وتطورها ، وتحدّث وسائلها ، وطرائق تنفيذها ، وتدرب متخصصين في شؤونها ، غير عابئة بحقوق المواطن الدستورية ، وبحقوق الإنسان ومنظمات الدفاع عنها : فتصفيات جسدية ، واعتقالات ، وتهم ملفقة ، وأحكام تعسفية ، وسجون ، وتعذيب ، وقطع أرزاق ، وإهانات ، وغيرها .. وغيرها مما يعرفه الجميع .
ومع أن سقوط هذه الأنظمة حتمي ، طال بها الزمن أم قصر ، فإن اللاحق منها لا يتعظ بما انتهى إليه السابق من مصير ، بل يستفيد من تركته ويبني عليها ، ويغذ السير في الطريق الذي سار فيه بغباء منقطع النظير .
أنا عاصرت جميع الأنظمة التي حكمت البلاد منذ العهد الملكي حتى اليوم ، وعرفت وسمعت الكثير عن أساليب القمع التي مارستها ، من أخفها إلى أقساها ، ولكنني لم أر أخسّ ولا أقسى من إرغام المعارضين على إعلان براءتهم من مبادئهم وأفكارهم ونشرها في الصحف ، أوتوقيع تعهدات خطية بالتخلي عنها وعدم الرجوع إليها .
أقول هذا لأنني عثرت أمس بين أوراقي على جريدة قديمة صادرة عام 1960 وقرأت في زاوية جانبية من زواياها تحت عنوان ( براءة ) ما يأتي :
( يتهمني البعض بأنني من حملة المباديء الهدامة والأفكار ( ... ) ولذا أعلن للجميع براءتي من تلك المباديء والأفكار , وأؤكد أنني ( ... ) والله على ما أقول شهيد . ) ثم يتلو ذلك اسم صاحب البراءة الصريح ( فلان بن فلان ) .
لقد مرت بالعراق أزمنة كنا نقرأ خلالها في الصحف اليومية العشرات ، بل المئات من مثل هذه البراءة ، أرغم على نشرها مواطنون لا ذنب لهم سوى الإيمان بمباديء معينة ترفضها السلطات الحاكمة ، وتعدها جريمة ينبغي أن يعاقبوا عليها . غير أن كثيرين كانوا يرفضون تقديم البراءات بشمم ويتحملون ما يتحملون من العقوبات بإيمان راسخ ، بما فيها التصفيات الجسدية وأحكام الإعدام .
لا أدري أي عقل خبيث ابتكر هذه الوسيلة الحقيرة ، فهي إهانة لإنسانية الإنسان وإذلال لشخصه ، وتسقيطه على الصعيدين السياسي والإجتماعي ، والحكم عليه بالغربة بين أهله وذويه لفرط إحساسه في دخيلته بالضآلة . ولست أدري ما إذا كانت ( البراءات ) ابتكاراً عراقياً أم أنها معمول بها في بلدان أخرى من بلدان العالم ، ولكنني لم أسمع أنها مستخدمة في بلد آخر غير العراق .
ربما اعتقدت السلطات الحاكمة ، أياً كانت ، بأن هذه البراءات وسيلة ناجعة في مكافحة المعارضة والقضاء على ميادئها وأفكارها ، ولكن هذا وهم ، مجرد وهم . هذا ما أثبتته التجربة العراقية خلال عقود طويلة من الزمن . فالأفكار لا تموت حتى لو شرعت السلطات الحاكمة قوانين لتحريمها والقضاء عليها ، بل هي تتجذر عند المقموعين أكثر من سواهم ، وغالباً ما يرثها أبناؤهم عنهم .
الأفكار تقارع بالأفكار ، وليس بوسائل القمع والإضطهاد .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

زقورة عقرقوف من المعابد العراقية في العصور القديمة

زقورة عقرقوف من المعابد العراقية في العصور القديمة وهذه صورة للزقورة وفيها مكان للمعابد العراقية وترتفع بالانسان المتعبد الى الاعلى حيث السم...