حوار مع الصحفي والموسوعي والناشط السياسي د. فائق بطي
17/11/2013 12:00 صباحا
الصحفي والموسوعي والناشط السياسي د. فائق بطي:
حوار وتحرير: توفيق التميمي * لو لم يظهر (التاجر الصغير ) ذلك اليساري او الوطني النشط في الشورجة هادي منصور امام طالب الاعداية فائق بطي،او لم تتوثق عرى الصداقة والزمالة مع الطالب جلال حمودي زميله في المرحلة الاولى من كلية الاداب،هل سيختار فائق بطي نجل البرلماني والوزير القومي رفائيل طريق اليسار والشيوعية تحديدا لمقاومة ما كان يراه من(فساد ورجعية وارتباط بالاستعمار) واحلافه وغيرها مما كان يعتقد بانه مقترن بوجود النظام الملكي الذي ناهضه ودخل سجونه وذاق طعم لسعات جلاديه؟ - الاختيار هنا الزامي، والانحياز الى الافكار التقدمية والتحررية، هو نتاج ايديولوجية، تقودك عمليا، الى الالتزام بها، بعد استيعاب وتشرب مضامينها الخيرة،ان استقيتها من منابعها الفكرية الثرة، وهذا هو سبب الانحياز، وليس فقط عن طريق التاجر الشيوعي المرحوم هادي منصور او الطالب في كلية الاداب جلال حمودي، وان كانا لهما الفضل في التطبيق الصدامي ضد السلطة الغاشمة بانتفاضة تشرين الناجحة العام 1952، وفي كل المعارك الوطنية الاخرى داخل العراق وخارجه، الا ان ايماني بتلك المبادئ، كان هو ضمانة الثبات عليها، والحصانة الامينة على تلك المبادئ السامية دوما. ابناء الذوات..... الى اليسار در * كيف تعلق على ظاهرة انسلاخ المئات من اولاد الذوات (وانت منهم بالطبع) عن طبقاتهم الاجتماعية وانخراطهم في حركة اليسار (سواء بالحزب الوطني الديمقراطي او الحزب الشيوعي العراقي ) وهل كان في تلك المرحلة اصطفاف يمكن ان تطلق عليه يسارا عراقيا حقا، توحده المواقف والقضايا المشتركة حيال احداث البلاد مطلع خمسينيات القرن السابق ؟ولماذا اختفت في هذه المرحلة ملامح الاتجاه الديمقراطي على حساب بروز النزعة الحزبية والايديولوجية، الذي ارساه ديمقراطيون من امثال عبدالفتاح ابراهيم والماركسي حسين الرحال ؟ - انها حقيقة تاريخية فلو استعرضنا اسماء اولئك المنخرطين في حركة اليسار العراقي وخصوصا الحزب الشيوعي العراقي الذي تأسس العام 1935، من ابناء (ذوات) البيوتات العراقية المعروفة، منذ مطلع الثلاثينيات حتى ثورة 14 تموز 1958. فمنهم من سقط شهيدا في شوارع الوثبة والانتفاضات (الرشيد والكفاح وباب الشيخ)، ومنهم المئات الذين توزعوا بين سجون نقرة السلمان والحلة والسجن المركزي في باب المعظم، الى جانب الذين انتزعت عنهم الجنسية العراقية، او الذين نجحوا في السفر الى خارج الحدود الى سوريا والقاهرة ولبنان.وللدلالة على ما اقول، استطيع ان اعطيك قوائم بالاسماء، وهي كثيرة، ولكن كمثال، اذكر اولاد كامل الجادرجي، الزعيم الديمقراطي المعروف، والوزير علي حيدر سليمان، وامين زكي، وعائلة الوزير القاضي، وآل الملاك، واولاد الحاج حمود، وآل الشبيبي، وآل مشتاق والقزانجي، وعشرات من العوائل الميسورة الاخرى. اما في ما يتعلق باصطفاف قوى اليسار العراقي الذي حدد بدوره وجوده كتيار سياسي قوي وناشط، فقد نما وتطور عبر مسيرة طويلة من المعارك والتجاذبات على المستويين، ميدان الشارع،والتنظيم الحزبي والنقابي، وتشكل منذ العام 1946: من الحزب الشيوعي العراقي، بقيادة يوسف سلمان (فهد)، والوطني الديمقراطي بقيادة كامل الجادرجي، وحزب الاحرار بقيادة سعد صالح، وحزب الشعب ورئيسه عزيز شريف، وحزب الاتحاد الوطني يزعامة عبد الفتاح ابراهيم،وعصبة مكافحة الصهيونية، والحزب الديمقراطي الكردستاني بقيادة الرمز الملا مصطفى البارزاني، الى جانب المنظمات الديمقراطية للطلبة والشبيبة والمرأة ونقابات العمال، والمئات من الشخصيات الوطنية الديمقراطية المستقلة. تحالفات وجبهات استطاعت حركة اليسار في الكثير من الفترات الزمنية والظروف التي فرضها النهوض الوطني، ان تعقد التحالفات والجبهات سواء اثناء وثبة كانون 1948 ضد معاهدة بورتسموث التي اسقطتها بدماء شهدائها الابرار، يتقدمهم طالب الحقوق جعفر الجواهري، شقيق شاعرنا الكبير الجواهري، او في انتفاضة تشرين 1956 لاسناد الشعب المصري ضد العدوان الثلاثي في اعقاب تأميم قناة السويس، او في انتخابات مجلس النواب، حين فاز في مطلع الخمسينيات، 13 نائبا من التحالف اليساري للمرة الاولى ومن ثم اقصاؤهم قسرا بعملية تزوير فاضح للانتخابات النيابية، واخيرا، وصولا الى جبهة الاتحاد الوطني في ربيع 1957 التي اسقطت النظام الملكي بالتنسيق والتعاون مع قوى هذا اليسار داخل تنظيمات الضباط الاحرار بقيادة الزعيم الوطني الشهيد عبد الكريم قاسم، وقيام النظام الجمهوري في العراق. اما بخصوص غياب ملامح التيار الديمقراطي بعد تلك المراحل، وتسيد الاحزاب السياسية من مختلف الاتجاهات والتيارات في الوقت الراهن، فاستطيع ان اوعز ذلك الغياب، بحدوده الدنيا، الى الاسباب التالية: اولا – خلو الساحة السياسية منذ نشوء الحكم الاهلي في البلاد مطلع عشرينيات القرن المنصرم، اذا استثنينا الاحزاب الكلاسيكية الاولى (الاخاء الوطني والتقدم والوحدة الوطني والاتحاد الدستوري) التي تناوبت على حكم البلاد، من الاحزاب السياسية الوطنية سوى الحزبين الشيوعي العراقي والوطني الديمقراطي ومن الحزب الديمقراطي الكردستاني. ثانيا – ظهور وغياب الاحزاب اليسارية الاخرى بسرعة العام 1946 التي اشرت اليها بالاسماء سابقا، وانسحابها من النشاط الحزبي نهائيا. ثالثا – تاسيس الحركات القومية العربية في العراق مطلع خمسينيات القرن المنصرم، وهي حركة القوميين العرب وحزب البعث العربي الاشتراكي، وقيام الاخير بمجازر دموية تصفوية في انقلاب شباط الاسود 1963 وانقلاب النايف – البعث في تموز 1968، حيث جرى تصفية المئات من قيادات وكوادر الحزب الشيوعي العراقي والمنظمات الديمقراطية. رابعا – تبعية الحكومات ما بعد الانقلابات الدموية ضد الشعب، للانظمة الاقليمية والامريكية والغربية، ساعد على ايقاف المد الوطني الديمقراطي الذي جاء مع وبعد ثورة تموز 1958. خامسا – انهاء كافة مظاهر الحياة الاجتماعية والفكرية والسياسية وفق منهجية حزب البعث العربي الاشتراكي في افراغ البلاد من اي نشاط سوى للبعث، خصوصا بعد تسلط صدام حسين على الحكم لمدة تجاوزت 35 عاما من الحكم الدكتاتوري التعسفي. سادسا – ظهور احزاب الاسلام السياسي، وهيمنة بعضها على الحكم، ومحاولة التنكر لمبادئ الديمقراطية المنصوص عليها في الدستور الجديد ما بعد الاحتلال. سابعا – تفكك التحالفات التي قامت خلال عمل المعارضة العراقية داخل وخارج البلاد قبل حرب سقوط النظام البعثي، وابتعادها عن اللقاء مجددا في الوقت الراهن. ثامنا – اخطاء الحزب الشيوعي العراقي بجعل التيار الديمقراطي وكأنه تابعا له، يشاركه في هذه الاخطاء، ما تبقى من هذه القوى التي يتشكل منها، وذلك بسبب عدم وضوح رؤيتها لأهمية وآلية عمل ونشاط هذا التيار في العملية السياسية الراهنة. الا انه جاء تحركه الجديد، ليس متأخرا، ويسعى الى تجميع كل ما له صلة بهذا التيار المهم في الحياة السياسية العراقية، حاليا وفي المستقبل. اتحاد الطلبة والشبيبة * ما هي الخلفية التاريخية بالوقائع والايام التي ظهر فيها تنظيما الاتحاد العام للطلبة والشبيبة الديمقراطية حسب شهادتك الشخصية لهما ...وكيف تقرا تاريخيا حظر عمل الحزب الشيوعي العراقي الحزبي من قبل الحكومات الملكية واباحتها لعمل تنظيمي الشبيبة والاتحاد العام للطلبة رغم انهما واجهتان معروفتان للحزب الشيوعي العراقي ورغم خطور الوسط الطلابي الشبابي على وجود الحكم الملكي القائم؟ ظهر اتحاد الطلبة العراقي العام (مؤتمر ساحة السباع ببغداد) واتحاد الشبيبة الديمقراطية عام 1948 وكان نشاطهما سريا لعدم اجازتهما من قبل السلطات العراقية، واول نشاط علني معترف به، جاء بعد ثورة 14 تموز 1958 وغابا بعد فرض حزب البعث الحاكم على الحزب الشيوعي المتحالف معه في ما سمي بالجبهة الوطنية التقدمية، عام 1976، انهاء وجودهما في الساحة. ثم تجدد نشاطهما بعد التغيير عام 2003. حارس النظام الملكي * عبدالعزيز الدوري والذي اسميته في مذاكراتك تارة ب (حارس النظام) (وتقصد الملكي بالطبع) وتارة بـ(شرطي الثقافة)، كان سببا قدريا في مغادرتك الاداب التي كانت عميدا لها والتحاقك لدراسة الصحافة في مصر بتشجيع من والدك الذي قرأ بحسه الأبوي والسياسي خطورة بقائك بالعراق، وربما كنت اول عراقي يتخصص في دراسة الصحافة ...اعتقد ان شخصية مثل عبدالعزيز الدوري لعبت دورا اكاديميا وسياسيا يجب انصافها باثر رجعي من دون مقدمات وعقد مسبقة،لانه لعب دورا مهما على صعيد الجامعة والوزارة لاحقا، لاسيما ابان صعود القوميين للسلطة ابتداء من عام 1963، بأثر رجعي هل كانت توصيفاتك للدوري هي ردة فعل شبابية هائجة بحق استاذ ينتمي للنظام التي تعاديه والتيار الذي تؤمن به آنذاك؟ وكيف يمكن ان نعيد الاعتبار لأمثال الدوري في معيار الانصاف التاريخي ؟وهل مازالت مؤمنا بانه كان في تلك اللحظة يمثل شرطي الثقافة وحارس النظام الذي تناهضه ؟ - رغم احترامي وتقديري للدور التربوي والثقافي الذي لعبه عبد العزيز الدوري بعد سقوط النظام الملكي، الا انه مع الأسف، كان جزءا من حرس النظام، وهو الشخصية القومية المفروض بها ان تصطف مع العناصر الوطنية المعادية للنظام الرجعي الملكي، الذي لم يكن وحده منفردا بالتعاون مع ذلك النظام، حيث اثبتت احداث اخرى، مثل هذا التعاون من قبل بعض المحسوبين على القوميين العرب، كل من موقعه في العملية السياسية والثقافية والتربوية، وهو ما حصل معي شخصيا من قبل الاساتذة والطلبة، بل وحتى مع اصدقاء الوالد، القومي العروبي.لم اكتب في (الوجدان) اي سطر ينم عن حقد او ردة فعل مني، بقدر ما نبع من ضمير شاب تحمل الكثير من الجور وهو في مقتبل العمر، لا لذنب ارتكبه، سوى حبه وارتباطه بوطن حاول اعطاءه الكثير والكثير، فيطرد من الدراسة على يد مثقف واكاديمي من طراز د.عبدالعزيز الدوري لسبب تافه لم يتعد حدود الدفاع عن النفس تجاه مدرس انكليزي حاول التطاول على وطنية هذا الشاب. اما اليوم، فلا يسعني الا ان اثمن دور الدكتور الدوري الكبير في اغناء سجل الثقافة العراقية بعطائه الثر في ميادين الادب والتاريخ والتربية القومية. والدي وزيرا * هل شكل ظهور ابيك رافائيل بطي وزيرا في وزارة الجمالي صدمة للشاب فائق بطي كما كشفته مذكراتك؟ وهل كانت نقطة افتراق او مراجعة في علاقة ابوية خصها لابن من دون ابنائه في دعم مواهبه الصحفية ومؤازرته في مشاكساته ومشاغباته الشبابية وتمرداته المكلفة له وللعائلة ؟ - نعم كانت صدمة لي في البداية، وحاولت حينها ان اثنيه عن قراره بقبول الاستيزار، الا ان وراء القرار كانت دوافع اخرى لم اقتنع بها، وادت الى رضوخي لاصراره على السفر الى مصر ودراسة الصحافة هناك، وليس بسبب ما سوف اتعرض له من مخاطر عند مقاومة مشاريع وزارة الدكتور فاضل الجمالي، وفي مقدمتها مشروع حلف بغداد العسكري وغيرها من المشاريع الاستعمارية آنذاك.لم تكن هناك قطيعة بينه وبيني، فالوالد وان كان قومي النزعة، الا انه كان ديمقراطيا بعلاقاته، فهو يحترم الرأي والرأي الآخر، وكان ينتظرني وبأمس الحاجة لي كي انهي دراستي واعود الى الوطن لاتسلم مسؤولية جريدة (البلاد) ليتفرغ هو للتأليف، الا ان المنية عاجلته في عام 1956 رحمه الله. فجيعة موت ابي * في فجر العاشر من نيسان 1956 تلقيت النبأ الفاجع بوفاة والدك المفاجئة، ماالذي تغير في روح الشاب المتوثب ؟ بعد تلك اللحظة ؟،ماالذي يعنيه ان يكون الكتاب الاول لفائق بطي (ابي )؟ هل كان ذلك تسديدا مابذمته حيال اب كان له الفضل الكبير في ارتقائه سلم الثقافة والكتابة ووراثته لمهنته الصحفية وحتى السياسة رغم افتراقهما بالرؤى والمنهج ؟،هل هي حياة تختصر محنة المثقف الذي مثله الاب رفائيل في تلك المرحلة الملكية وصراعه مابين الاحلام الثورية البريئة ومابين ضغط الواقع وقهره ومتطلباته ؟ - قرأت وانا اتصفح جريدة الاهرام في القاهرة صبيحة ذلك اليوم الحزين، نعي الوالد، فكانت بالفعل صدمة كبيرة لم اتوقعها، اذ لم يكن مريضا ولا يشكو من اي مرض طيلة حياته، وعند استفساري للتو من بغداد عن سبب الوفاة، قيل لي بأنه كان مدعوا مساء امس عند صالح جبر، رئيس الوزراء السابق، وان هناك شكوكا باغتياله عن طريق دس الســـم في طعامه. لم اصدق هذا الخبر، فالوالد صديق الكل، وليس له اعداء، اللهم الا الخصومة من بعض السياسيين، كنوري السعيد مثلا، ولو استبعد ذلك، الى ان تبين لاحقا بان الوفاة كانت نتيجة الذبحة الصدرية. وعند ذاك، انتابتني موجة من البكاء وانا احدق في صورته التي لم تفارقني منذ ان غادرت بغداد الى القاهرة لغرض الدراسة، خصوصا اني كنت استلم منه رسائل بانتظام وهو يحثني الخطى لانهاء التعليم الجامعي، والعودة الى الوطن لتسلم الامانة منه في عالم (البلاد). لم استطع السفر الى بغداد للمشاركة في التشييع بسبب مذكرة القاء القبض علي، الصادرة من مديرية التحقيقات الجنائية لنشاطي السياسي المعادي للحكومة في الصحف المصرية وفي اذاعة صوت العرب (ومن مفارقات القدر، ان الحرمان هذا، حرمني لاحقا من تشييع الاخوة الثلاثة ايضا: بديع، الذي توفي في نيويورك وانا في بغداد، وكمال، الذي غاب وانا في موسكو، وسامي، المتوفى في بغداد وانا في لندن، وكنت قد فقدت ولدي رافد بحادث مرور وهو يدرس في اميركا) فبقي هذا الحرمان من المشاركة في تشييع الوالد، دينا في عنقي، حتى حان الوقت لرد هذا الدين الكبير والغالي، في صفحات كتاب (أبي) المكتوب حتى نهاية صيف 1956. فقد اولاني هذا الانسان، الاهتمام المطلوب من أب لولده كي يورثه تلك الكنوز الدفينة، وان يكمل ما بدأه في مشوار الصحافة والادب، حتى باتت رسائله، موجات توجيه وتربية وتشجيع ورعاية، خوفا من ان تضيع من يده الثقة باصالة الوريث، فتضيع معه ذكراه. |
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق