الاثنين، 15 ديسمبر 2014

حسين مردان بقلم الاستاذ سامي مهدي

ذكريات جانبية  للاستاذ سامي مهدي (19)
حسين مردان
بدأت أقرأ للشاعر حسين مردان وأتتبع ما ينشره منذ عام 1954 ، وكلما وقع تحت يدي شيء من قديمه ، في زورات سوق السراي ، بادرت إلى اقتنائه . وهذا في الواقع ما كنت أفعله مع جميع أدباء جيله البارزين ، شعراء وقصصيين وكتاباً . وكنت وأنا أقرأهم ، وأقرأ ما يكتب عنهم ، لا أكتفي بتكوين انطباعات عن أدبهم ، بل أبني تصورات عن شخصياتهم أيضاً ، وهكذا كان الأمر مع حسين مردان .
كان شعر حسين مردان يصوره لي بأنه شخصية متمردة على تقاليد الناس ومثلهم الأخلاقية والإجتماعية . أما مقالاته النقدية فكشفت لي أن شخصيته المتمردة هذه هي أيضاً شخصية عنيفة لا تتورع عن إطلاق أقسى الأحكام ، بأخشن الألفاظ ، على شعراء ونقاد ذوي مكانة أدبية مرموقة . هذا ما خرجت به من انطباعات حين قرأت دواوينه ، وخاصة ديوانه ( قصائد عارية ) وكتابه ( مقالات في النقد الأدبي ) . ولكن انطباعاتي هذه تغيرت حين عرفته عن كثب .
مما أثار استغرابي في كتاب ( مقالات في النقد الأدبي ) مقال مطول ، يقع في أكثر من ثلاثين صفحة ، عن قصيدة للجواهري عنوانها ( لاجئة في العيد ) . فقد كان هذا المقال من أعنف ما كتب في نقد شعر أبي فرات ، وكان فيه تحامل واضح عليه لسبب لا أعرفه ، ولم أسأل أحداً عنه . فمما قاله في مقدمة هذا المقال ( لقد سقط الجواهري من فوق القمة العالية ولم يعد في إمكانه الصعود أبداً ) . وكان أبو علي قد نشر مقاله هذا في جريدة ( الأوقات البغدادية ) عام 1952 وأعاد نشره بإصرار واضح في هذا الكتاب عام 1955 .
تعرفت على ( أبي علي ) في أواخر عام 1968 يوم عين موظفاً في القسم الثقافي لإذاعة بغداد بمسعى من صديقي الشاعر حميد سعيد . كان فرحاً بهذا التعيين وكان يعلن هذا الفرح أمامنا بكل تواضع ( لك بابا ، هاي أول مرة في حياتي أتوظف بيهه وأقبض راتب كل راس شهر ! ) . ثم لم يلبث بعد هذا التعيين ، وربما قبله بقليل ، أن كلفته مجلة ( ألف باء ) بكتابة مقال أسيوعي في أي موضوع يرغب الكتابة فيه . وهكذا أصبحنا زميلي عمل في المجلة ، وصرنا نلتقي في مكاتبها ، وفي اتحاد الأدباء عند تأسيسه ، فتكشّف لنا من شخصيته ما لم نكن نعرفه عنها .
في تلك الحقبة كانت حركة الستينيات في أوجها ، وكنا نستعد لإصدار مجلة شعر 69 وكان أبو علي ما يفتأ يشاكسنا بتعليقاته الظريفة ( لك بابا شنو خابصين نفسكم هل خبصة وإنتو بعدكم لحيمية ، لي هسّه ما طلّعتو ريش ؟ ) وكنا نستلطف تعليقاته ، ونرد عليه بمشاكسات مماثلة فلا يغضب بل يضحك هو الآخر ويقول ( والله يابه أنتو تخوفون ! ) . وفي إطار هذه المشاكسات قررت ذات يوم إجراء لقاء صحفي معه ، فحدث اللقاء ، ونشر في العدد 21 مجلة ( ألف باء ) دون ذكر إسمي عليه ، وكان فيه ما فيه من المشاكسات بدءاً من العنوان . وأعاد الراحل الدكتور علي جواد الطاهر نشره في كتابه ( من يفرك الصدأ ؟ ) . وأظن أن هذا اللقاء هو اللقاء الصحفي الوحيد الذي أجري مع حسين مردان طوال حياته .
ويوم صدرت مجلة شعر 69 وفي صدارة عددها الأول ( البيان الشعري ) كتب عدة مقالات في مناقشة هذا البيان ، وكان من أرصن ما كتب عنه ، ولكن من المؤسف أن ما كتبه في هذا المجال أصبح ، في ما أظن ، في حكم الضائعات .
كان أبو علي طيب القلب ، نقي السريرة ، وكانت طيبته تبلغ في بعض المواقف حد السذاجة . وكان ينظر إلى الحياة وإلى الأشياء بعينين دهشتين ، ويرى فيها ما لا يلفت نظر غيره . كان كل شيء يمكن أن يكون مثار عجبه ودهشته . فلا يسعك إلا أن تستلطفه وتحبه . ولم يكن أبو علي كما تصوره لنا قصائده العارية ، فقد وجدت فيه رجلاً خجولاً حيياً ، يلجمه الجمال ويخرسه ، حتى لتبدو أفاعيله التي يدعيها في تلك القصائد ضرباً من ضروب الخيال .
أذكر أنه أحب عام 1970 فتاة مسيحية كانت موظفة في وزارة الإعلام . وكانت هذه الفتاة على درجة مقبولة من الجمال ، ولكن بياض بشرتها كان غير اعتيادي ، كان بياضاً حليبياً لافتاً للنظر ، فأحبها أبو علي ، وصار يتردد على الوزارة ويتحين الفرص ليراها ، حتى بلغ به الأمر أن يطلب الزواج منها . فكلف أم نوار بأن تخطبها له . ولما فاتحتها أم نوار بطلبه ، لم تستنكر خطبتها من مسلم ، بل قالت في شكله ما ليس فيه ، ورفضته لأن هذا الشكل لم يعجبها . أما أم نوار فلم تنقل لأبي علي رأي الفتاة في شكله ، بل قالت له : إنها ترفض طلبك لأنك على دين غير دينها . فرد عليها أبو علي : وماذا في ذلك ؟ أنا مستعد لأن أكون على دينها ! 
ولكن لا الفتاة رضيت به في ما بعد ، ولا هو تحول عن دينه ، ثم توفي بعد ذلك بنحو سنتين وهو أعزب .
كان أبو علي شخصية طريفة ، وأحسب أن كل من عاصره وكان قريباً منه يحتفظ له في ذاكرته بعدد من طرائفه كالقاص أحمد خلف مثلاً . وقد اجتذبت شخصيته بعض الأدباء فاستلهموا منها بعض أعمالهم . وأول من فعل ذلك على ما أذكر القاص الراحل عبد الرزاق الشيخ علي ، إذ كتب عنه قصة بعنوان ( شاعر العصر ) ونشرها في ملحق جريدة ( صدى الأهالي ) وصوره في هذه القصة بالصورة النمطية المبتذلة التي كانت شائعة عن الأديب الوجودي . فغضب أبو علي وكتب مقالاً تهكمياً في الرد عليه والمقال منشور في كتابه ( مقالات في النقد الأدبي ) .
وممن استلهموا شخصية أبي علي الروائي الراحل غائب طعمة فرمان ، فجعلها إحدى شخصيات روايته ( خمسة أصوات ) . أما الشاعر فوزي كريم فكتب عنه قصيدة جميلة عنوانها ( حسين مردان ) . وقد أنصفه الدكتور علي جواد الطاهر حين درسه في كتابه ( من يفرك الصدأ ؟ ) . وكنت دائماً أمني نفسي بالكتابة عنه حتى حالفني الحظ فأنجزت دراستي ( حسين مردان : جذوة جيل ) ونشرتها في كتابي ( في الطريق إلى الحداثة ) . 
رحم الله أبا علي ، كان شخصية فريدة فذة .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

في اهمية العودة الى الثوابت القيمية الاخلاقية

                                                                      ابراهيم خليل العلاف   ومساؤكم خير .........................وليلكم جميل...