السبت، 13 ديسمبر 2014

ملف عن الشاعر الموصلي الكبير الاستاذ محمود المحروق

د.محمد شادي كسكين
08-09-2010, 23:24
http://images.alwatanvoice.com/writers/0641112420.jpg

محمود المحروق ..الشاعر الكبير بين قيثارة الريح وقيثارة الزمن
ا.د. إبراهيم خليل العلاف
أستاذ التاريخ الحديث-جامعة الموصل
محمود فتحي المحروق من رواد الشعر الحديث في العراق ،بل هو رائد تقدم على الكثير من مجايليه. ويبدو أن الضوء لم يكن مسلطا عليه بالقوة والسطوع الذي سلط على غيره وتلك فرصة لاينالها إلا من كان ذو حظ عظيم ،لكن لابد من أن يضع الكتاب والنقاد ذلك جانبا ،ويبدأوا في توثيق سير وحياة من ترك بصمة في جدار الثقافة العراقية المعاصرة إن كان ذلك على مستوى الشعر أو الأدب أو اللغة أو الفن أو القصة أو الرواية أو غير ذلك .ومحمود فتحي المحروق هو واحد من أولئك . ولد في مدينة الموصل سنة 1931 وتوفي سنة 1993 . تخرج في دار المعلمين بعد حصوله على الشهادة الثانوية ومارس التعليم ،افرد له الأستاذ الدكتور عمر محمد الطالب حيزا في موسوعته : "موسوعة أعلام الموصل في القرن العشرين" ، وقال عته إن والدته أثرت على تكوينه الثقافي والنفسي حيث انصرف إلى الشعر. وكانت بحكم انحدارها الطبقي العشائري تحفظ كثيراً من الأشعار البدوية،وتضرب العديد من الأمثال وتروي القصص، وتداخلت مع تكويناته النفسية والبيئية والحياتية، حساسية مفرطة، وصورة بيئية قاسية،وحياة قلقة شاقة. فقبيل منتصف الأربعينات من القرن الماضي تفاعل كل ذلك وامتزج فكون منه بعد ذلك إنساناً يسكنه الحزن والأسى وتعيش في نفسه أحلام كبار متشحة برؤى صوفية حالمة وتمزقت حنايا نفسه غربة روحيه ومشاعر نقية صافية.توجه نحو الفكر اليساري ، وبدأت قصة الشعر معه في ربيع سنة 1946 حين أهداه زميل في المدرسة المتوسطة كتاب (ميزان الذهب) في صناعة الشعر، وديوان الشاعر المصري المعروف علي محمود طه (زهر وقمر)، وبدأ المحروق تعلم النظم والأوزان الشعرية، ثم دخل كوة الشعر عن طريق جبران خليل جبران وتأثر بنهجه كثيرا ولا سيما نزعته الرومانسية الطاغية في شعره. وواظب المحروق على المطالعة المكثفة -كأبناء جيله - في المكتبة المركزية العامة في الموصل. ولم يقتصر على قراءة الشعر وإنما إنصرف إلى قراءات مختلفة تشمل كل أنواع المعرفة، وولدت قصيدته الأولى من مجزوء بحر الرمل. وبدأت مرحلة ثانية من حياته ، وحطت هذه المرحلة في (مقهى الصياغ) ويقع في مدخل شارع النجفي، فيها كان يسهر مع الصحب لسماع سهرات أُم كلثوم الشهرية بدءاً من سنة 1947 ومع سهرة أُم كلثوم الأولى التي غنت فيها أُغنيتها الشهيرة (كل الأحبة اثنين اثنين). وفي هذه المرحلة المبكرة من حياته كان لابد له وهو لما يزل فتى غض الاهاب أن يفكر بالحب لكنه سما بهواجس الحب نحو آفاق روحية بعيدة عن الأسفاف بحكم توجهاته السليمة واهتماماته الشعرية والأدبية، فقد رسم للمرأة في خياله صورة مقدسة على أساس أنها أجمل ما في الكون من مخلوقات، وهي رمز للحب الإنساني ، فولدت قصائد سنة 1947 مثل (إليك تسبيحة، حورية الفجر، حياتي ضلال، نار ونور) وخلال دراسته الإعدادية، اتضحت سماته الشعرية شيئاً فشيئاً وأخذت طابعاً متميزاً من الجدة والثورة على التقليد في الشكل والمضمون واتسعت قراءاته وتنوعت وتأثر بشعر المهجر وشعر مدرسة ابولو، فنظم قصائد متباينة نشر بعضها في الصحف والمجلات.
اتجه للكتابة في الصحف والمجلات الموصلية والعراقية والعربية ومضت سنوات مهمة من حياته كانت حافلة بالعطاء واستمر الأمر هكذا حتى سنة 1954 ، كتب فيها محمود المحروق العديد من المقالات النقدية والثقافية فضلاً عن نظمه للشعر. وظهرت مقالاته في صحف موصلية عديدة منها (فتى العراق، الجداول، الفجر، فتى العرب، الروافد، العاصفة، الراية، المثال، صدى الروافد، الواقع) وفي صحف بغدادية مثل(الأخبار، العراق اليوم، الوميض، الحصون، صوت الكرخ، الهاتف الأسبوع) ومجلة العقيدة النجفية، ومجلة الحديث الحلبية ومجلة الدنيا الدمشقية، ونشر في مجلتي الرسالة والثقافة (القاهريتين)، في سنتي 1951-1952ونشر في مجلة الأديب( اللبنانية) سنة 1954وفي مجلة الآداب في السنوات 1953-1954وفي عام 1958، وفي مجلة الرسالة( البيروتية ) سنة 1956.
لقد أُعجب محمود المحروق بقصائد الشاعر الفرنسي (لامرتين)، وحاول ترجمة شعره عن الإنكليزية في ديوانه (تأملات) الذي قدم له الأستاذ الدكتور إبراهيم السامرائي وما يزال مخطوطاً. شغلت الحياة محمود المحروق في مجال التعليم والصحافة والسياسة عن نظم الشعر فكتب قصيدة هنا ونظم أخرى هناك، وعمل مشرفاً لغوياً بعد الدوام الرسمي في جريدة الجمهورية ببغداد فضلاً عن إشرافه اللغوي على الموسوعة الصغيرة التي كانت تصدرها دار الشؤون الثقافية العراقية ، وأحيل إلى التقاعد سنة 1979، وانتهى به الأمر منذ منتصف الثمانينات وحتى وفاته –رحمه الله -مشرفاً لغوياً في جريدة الحدباء الموصلية، وتوفي المحروق أثر مرض عضال عانى منه فترة طويلة . عندما كتبت مقالتي عن جماعة رواد الأدب والحياة والتي ضمت إلى كتابي : "تاريخ العراق الثقافي المعاصر " قلت أن الأستاذ محمود المحروق، كان عضوا مؤسسا فيها وهي تجمع ثقافي ظهر في الموصل سنة 1954، وكانت من بواكير التجمعات الأدبية العراقية المعاصرة وقد ضم التجمع عند ظهوره أربعة أدباء مؤسسين قدر لهم فيما بعد أن يقوموا بدور فاعل في الحياة الثقافية العراقية المعاصرة وهم : محمود المحروق ، وشاذل طاقة ، وهاشم الطعان ، وغانم الدباغ . وقد عدوا من رواد الأدب العراقي الحديث ، وكانوا ذوي توجه تقدمي يساري ، بحثوا عن التغيير ولجأوا إلى الشعر والقصة ليكونا الميدان الذي يعبرون من خلاله عن طموحاتهم في إيجاد أدب يرتبط بالحياة وهمومها . ومما ينبغي تسجيله في هذا الصدد أن الصحفي البارع الأستاذ عبد الباسط يونس ( 1928 – 2000 )- وكان يصدر جريدة في الموصل باسم الراية ( برز عددها الأول في 11 نيسان 1951 )- قد أفسح لهم في جريدته بابا مستقلا يحمل عنوان : ( باب رواد أدب الحياة ). ويشير الأستاذ الدكتور عمر محمد الطالب في مقالته الموسومة : (( محمود المحروق 1931 – 1993 )) التي نشرها في جريدة الحدباء ( الموصلية ) بعددها 595 الصادر في 123 تشرين الأول 1993، إلى أن مجلة الرسالة الجديدة ( البغدادية )، قد وثقت نشاطات هذه الجماعة وذلك في عددها الصادر في 17 أيار سنة 1954 ويمكن الرجوع إليه للاطلاع على مزيد من التفاصيل حول هذه الجماعة الأدبية التي بعد ذلك برز أركانها في ميدان الشعر والقصة والمقالة .
ولنتساءل عن القاسم المشترك الذي ربط بين أولئك الرواد، ونقول أن جميعهم من مدينة الموصل، وان الرغبة في التجديد ومحاربة الأنماط السكونية في التعبير والخروج عن المألوف المتداول في الشعر والقصة هي ما كان يجمعهم والأبعد من ذلك محاولتهم التصدي للتعقيدات الشكلية التي كانت تميز الحياة الثقافية العراقية آنذاك. فضلا عن أنهم كانوا في عمر متقارب تقريبا فمعظمهم من مواليد الثلاثينات من القرن الماضي ، أي أن أعمارهم عند ظهورهم كانت تتراوح بين 15 – 25 عاما . وكانوا تقدميين يساريين في آرائهم ومنطلقاتهم الفكرية، لكن ثمة أمر لابد من التأكيد عليه، وهو أن الصراعات الفكرية والسياسية بين الأحزاب والتي تفاقمت بعد ثورة 14 تموز 1958 ، أدت إلى إحداث التباعد بينهم ، وكما يقول الأستاذ الدكتور عبد الإله احمد في كتاب "الأدب القصصي في العراق منذ الحرب العالمية الثانية" ، فان معظم أولئك الرواد ذهبوا ضحية الأحداث السياسية العاصفة المتقلبة والتي أجهزت عليهم ، أو حالت بينهم وبين تطور أنفسهم على نحو يتيح لهم تحقيق ما بدا أنهم مؤهلون لتحقيقه .
فمحمود المحروق- على سبيل المثال - لم ينل ما يستحقه من اهتمام ، عصفت به السياسة ، فضاع في أتونها ، هذا الرجل نظم في السادس من آذار 1948 وعمره ( 17 ) سنة قصيدة ( ظلام ) ،والتي تعد أول تجربة أدبية عراقية في الشعر الحر ، وقد ظهرت منشورة في جريدة صوت الكرخ ( البغدادية ) ،( العدد 48 في 8 تشرين الثاني 1949) وجاء فيها :
مضينا .. وفي قلبنا تهاويل جياشة بالعناء
وكنا .. وكان الزمان لنا .. ملاحم ننشرها بالهناء
ونرشف من نخبها .. رحيق الهوى والحياة
وفي قلبها سكبنا الدموع .. شآبيب تدنو بنا للفناء
وتدفعنا للسبات .. فتندب أحلامنا ونمضي وما من رجوع
وعندما كتب هذه القصيدة ، كانت نازك الملائكة تكتب في اللحظة ذاتها قصيدتها
( الكوليرا ) ،وكان بدر شاكر السياب يكتب كذلك قصيدته ( هل كان حبا ؟!)..لقد نظم المحروق قصيدة: "ظلام" ،ونوع فيها القوافي ووزع فيها في التفعيلات توزيعا جديدا ، وان ظلت الصور واللغة والتراكيب ضمن موقفه الرومانتيكي الطاغي )) هكذا يقول ذو النون الاطرقجي في دراسته عن الشعر في الموصل ، موسوعة الموصل الحضارية ، (ج5 ، ص 378) .
ومحمود المحروق كان مدركا- منذ البدء -انه يفتح طريقا جديدا في الشعر، وقد تحدث في 30 آذار 1993، وعبر جريدة الحدباء عن تجربته تلك، قائلا بان أحد الأسباب التي يراها تقف وراء قيام حركة التجديد في الشعر وظهور الشعر الحر هي: (( الثورة على الأساليب القديمة في القصيدة العمودية ، والابتعاد عن السطحية والتقريرية والمباشرة وإدخال الألفاظ الرقيقة العذبة التي تعطي للشعر الحديث طراوة خاصة ، وجوا موسيقيا كأنه السلسبيل )).
ولا ينبغي الذهاب بعيدا في معرفة ردود الفعل على قصيدة ظلام ولكن لابد من القول انه اصدر ديوانه الأول بعنوان (( قيثارة الريح)) قبل أن يخرجوا للسياب بعد سنوات وسنوات ديوانا بالعنوان نفسه . فبين الإصدارين سبع عشرة سنة ( الموصل – 1954 .. بغداد – 1971 ) .
وقد ندب الأستاذ الدكتور عبد الوهاب العدواني نفسه للحديث عن قيمة الديوان وصاحبه فقال في مقالة كتبها في جريدة الحدباء ( 12 تشرين الأول 1993 ) أي بعد أيام من رحيل المحروق ان المحروق لم يكن شاعرا حسب ، بل كان ناقدا له باع طويل في معرفة الشعر وفهمه واستيعابه وتمثله ، ومع أن الأدباء العراقيين قد استقبلوا ديوان المحروق ، كما قال الناقد سامي أمين في عدد آب 1954 من مجلة الآداب (البيروتية )، بشيء غير قليل من العنف ، وكتبوا عنه كتابات اتسع فيها المجال للإشارة الى عيوبه واغراقه في الرومانسية ،لكن ذلك لم يلغ أن المحروق قد أظهر في شعره موقفا وطنيا وانسانيا . لقد كان بحق مثقفا ملتزما بقضايا مجتمعه .
ولم يكن المحروق لوحده متميزا في موقفه هذا بل كان زملاؤه كذلك .. فشاذل طاقة، وغانم الدباغ ،وهاشم الطعان، كانوا يبغون تثوير اللغة العربية ، وهم وان تعمدوا الإغراق في الغموض والإمعان في التأثر بخطى بعض أساليب الغرب الأدبية، إلا أنهم كانوا ذوي موهبة خلاقة ، وثقافة أصيلة ، وصدق بين) .
إن بدايات جماعة رواد الأدب والحياة ، وان تبدو قلقة ، توحي بافكار ونزعات تجديدية تبتغي التغيير وعدم الركون لما هو متوارث وكلاسيكي ، فان المسألة التي لا يمكن تجاهلها هي ان لروادها فضل الاجتهاد والتجريب وانتهاج طريق غير مألوف في التعبير عن كوامن النفس العراقية التواقة إلى الحرية والحق والصدق وهذا هو ما منح أعمال هذه الجماعة قيمة الوثيقة الأدبية المعتمدة في التأريخ لحياة العراق الثقافية المعاصرة . ونختم مقالنا بذكر قصيدة جميلة للمحروق بعنوان : " في لجة الصمت " يقول فيها :
أيهذا الغريق يا شاعر الصمـ _________________________ ـت كفاك التحديق خلف الضفافِ _________________________
قد مضى الزورق الحزين وما زلـ _________________________ ـت تغني للموج سر الطواف _________________________
هي ذي يا شقيّ هُوج الأعاصيـ _________________________ ـر تدوّي... وأنت نهب السوافي _________________________
سوف تطويك عاصفات من الصمـ _________________________ ـت ... فتغدو ممزق الأعطاف _________________________
وستمحو الأمواج بيض أمانيـ _________________________ ـك وتنعى... جنازة الأطياف _________________________


أيهذا الغريق... رفقا بدنيا _________________________ ك فخلف الضفاف صمت عميقُ _________________________
قد تضللتَ... ما تصبَّاك يا شا _________________________ عر, ... عد فالحياة بحر سحيق _________________________
كلما رُمْتَ للحياة وصولا _________________________ سخرت منك موجة وبروق _________________________
فيم تقضي الشباب في غيهب الصمـ _________________________ ـت ... وتطوي المنى... وأنت غريق؟ _________________________
وغدا... لن تعي سوى صرخات _________________________ يتغنّى بها الظلام المحيق _________________________


أيها الشاعر الذي يتغنى _________________________ تهت في الكائنات عرضاً وطولا _________________________
ارجع الآن لن ترى ثمَّ شيئا _________________________ أنت في الأرض ترتجي المستحيلا _________________________
أنت يا شاعر السكينة قلب _________________________ أوصد الكون دونه المجهولا _________________________
د.محمد شادي كسكين
08-09-2010, 23:28
صفحة من الذاكرة الموصلية


الشاعر محمود المحروق وقصة نفيه بسبب قصيدة (الشمس والجلادون)

د. عبدالفتاح علي البوتاني


كلية الآداب/جامعة دهوك



ولد الشاعر محمود المحروق في الموصل سنة 1929، واكمل دراسته الابتدائية والمتوسطة والثانوية واعداد المعلمين فيها سنة 1951، وعمل في مطلع حياته الوظيفية معلما في الموصل (1) ثم قامت السلطات بنفيه الى الديوانية (القادسية) في تشرين الثاني 1961، بسبب افكاره التقدمية، او ربما لتعاطفه وانتمائه الى الحزب الشيوعي العراقي او الى احدى واجهاته.

لم يعد المحروق الى الموصل، الا بعد احالته على التقاعد سنة 1979 واشتغل في بغداد مشرفا لغويا في جريدة الجمهورية، وفي سلسلة كتاب الموسوعة الصغيرة، وفي الكتب المدرسية للدراسة المتوسطة ودور المعلمين، وعمل في سني حياته الاخيرة في جريدة الحدباء الموصلية، مشرفا لغويا ومصححا حتى وافته المنية يوم الخميس الموافق 30 ايلول 1993، اثر مرض عضال الم به.

وبوفاته فقدت مدينة الموصل ابرز شعرائها الرومانتيكيين. وقد رثاه عدد من كتاب وشعراء المدينة، اذكر منهم الاستاذ ذو النون الاطرقجي الذي رثاه بقصيدة عنوانها (سلاما.. شبح الابتسامة ومحمد علي الياس العدواني في قصيدة (صدى القيثارة)، والدكتور عبدالوهاب العدواني، وعبدالغفار الصائغ، ونزار عبدالجبار بكر، واحمد محمد المختار (2).

كتب المحروق الشعر وهو في سن السادسة عشرة، وبدأ ينشر شعره منذ سنة 1947 في صحف الموصل وبغداد وكركوك والنجف، كما نشر في الصحف والمجلات المصرية واللبنانية والسورية، واصدر سنة 1954 مجموعته الشعرية الاولى (قيثارة الريح)، وفي السنة نفسها شارك في تكوين جماعة ادبية في الموصل مع الشاعر شاذل طاقة وهاشم الطعان وغانم الدباغ ويوسف الصائغ وعبدالحليم اللاوند واطلقوا عليها اسم (رواد ادب الحياة). ومن الجدير بالذكر ان المحروق نشر قصيدتين في الشعر الحر كتب احداها سنة 1948، أي بعد تجربة الشعر الحر لنازك وبدر شاكر السياب بعام واحد، وقد اشار الى هذه القصيدة كثير من النقاد في كتبهم وابحاثهم (3).

وكتبت عنه ذو النون الاطرقجي في موسوعة الموصل الحضارية يقول: (هو الشاعر محمود فتحي المحروق، الذي يشتاق الى عالم الروح والمثال، ويترفع عن عالم الطين معتليا صهوة (بساط الريح) الى حيث (اهل السماء) وتسبيحة الملائك والانوار والنظام الالهي المستتب. ومجموعته (قيثارة الريح) تمثله في طليعة الشعراء الرومانتيكيين…، ولعل من حق محمود المحروق علينا ان نسجل انه كان اسبق زملائه الموصليين الى تمثل تجربة شعر التفعيلة (الحر) الجديدة اذ نظم قصيدة (ظلام) سنة 1948 (4).

الشاعر محمود المحروق في الذاكرة

لقد تهرب جميع الذين كتبوا عن المحروق وشاعريته عن ذكر جوانب مهمة اخرى من حياته وشعره، ولاسباب سياسية معروفة، كما لم يذكر احدهم اسباب قضائه نحو عقدين من سني حياته في جنوب العراق وفي بغداد، وكان ذلك سببا في انقطاعه عن كتابة الشعر (5).

كما لم يتطرق اصدقاؤه للقصائد التي نشرها في جريدتي (الشبيبة) و (الحقيقة- راستى) الموصليتين سنة (1959-1960) عن نضال الشعوب المضطهدة، ولاسيما عن الثورة الجزائرية.

في السنة الدراسية (1961-1962)، كنت تلميذا في الصف الخامس الابتدائي في مدرسة الحرية الابتدائية للبنين في محلة النعمانية (الدركزلية) بالموصل، وكان مدير مدرستنا يدعي محمود افندي، كان شابا جميل الصورة حلو الكلام وانيقا في كل شيء، وودودا يحترمه المعلمون ويحبه التلاميذ، ولم اره ينفعل يوما، او ينهر تلميذا، كان دائم التجوال في ساحة المدرسة وممراتها، ينتقل من صف الى صف والبسمة لاتفارق وجهه.

وبعد اكثر من شهرين على الدوام اختفى محمود افندي، وبدأنا نحن التلاميذ نفتقده ونسأل عنه، الا اننا لم نصل الى سبب غيابه، حتى المعلمين عندما كنا نسألهم كانوا لايجيبوننا بصراحة، ولكن تأكد لنا انه لم ينتقل الى ادارة مدرسة اخرى، واتذكر انه زار المدرسة بعد اسابيع من اختفائه، ولم يكن طبيعيا، فالهّم كان باديا عليه، ثم اختفى نهائيا.

بعد اختفاء محمود افندي باقل من اسبوع عين مكانه مدير اخر يدعى زيدان جاسم كركجه، كان عمره بحدود (40-45) سنة، رجل مقطب الجبين، عبوس، حاد المزاج، لم اره يضحك او يلاطف تلميذا او معلما يوما ما، على العكس تماما من محمود افندي، واخذ التلاميذ (وكان معظمهم من الكرد) يتهامسون فيما بينهم ويقولون بان المدير الجديد (قومي)، عندها بدأت اسباب نقل المدير السابق تتضح.

كان كركجه مديرا قاسيا مع التلاميذ، ولايوده المعلمون، وبعضهم كان يجامله خوفا، حتى الفراشين (البوابين) كانوا يكرهونه، فقد كان دائم العراك مع احدهم وكان تركمانيا يدعى (قاسم)، يهدده بالطرد او العقوبة، وتبين فيما بعد، ان السبب هو رفض (قاسم) الذهاب الى دار المدير في حي المجموعة الثقافية للعمل في تنظيم حديقته.

وفي السنة الدراسية 1962-1963، وعلى اثر انقلاب 8 شباط 1963 الدموي واستيلاء حزب البعث على السلطة، اختفى اكثر من معلم واتذكر منهم معلم الرياضة الشاب صديق افندي (كان اعزبا)، وعندما اطلق سراحه بعد اشهر، وجدناه شاحب الوجه نحيفا، بينما كان شابا ممتلئ الجسم حيويا قبل اعتقاله، وعلمنا ان الحرس القومي (تنظيم بعثي مسلح سيء الصيت) (6)، كان قد اعتقله وعذبه بتهمة انه شيوعي، اما صديق افندي فظل مهموما قليل الكلام ولم يعد متحمسا لمهنته، وكان التلاميذ يحبونه اكثر من أي معلم اخر، لاسيما المشاركين منهم في الفرق الرياضية، وكنت احدهم.

ان اعتقال صديق افندي واطلاق سراحه، ادى الى ان يتذكر التلاميذ محمود افندي، وبدأوا يتساءلون عن مصيره، وشاع في صفوفهم ان كركجه هو السبب في اعتقال صديق افندي واختفاء محمود افندي، ولم يكن ذلك صحيحا، ولكن كرههم له كان يوحي لهم بمثل تلك التصورات.

المهم في الامر، وبعد (30) سنة وبالتحديد في سنة 1989-1990، وعندما كنت اتردد على ادارة جريدة الحدباء (الموصلية) لمقابلة رئيس تحريرها الدكتور محي الدين توفيق او ذنون الاطرقجي وعبدالغفار الصائغ، لامور تتعلق برسالتي للماجستير (الحياة الحزبية في الموصل 1926-1956). رأيت هناك شخصا واكثر من مرة يشبه محمود افندي، وكان نادرا ما يكلم احدا، يدخل ويخرج دون ان يلتفت الى هذا وذاك، ولايتوقف الا اذا اعترضه احدهم. وفي احدى جلساتي مع عبدالغفار الصائغ سألته عن ذلك الشخص، فأجاب بانه يدعى محمود المحروق، وهو شاعر وكاتب معروف ويعمل في الجريدة.

استبعدت ان يكون هو نفسه محمود افندي، فشكله قد تغير وسلوكه وتصرفاته حتى مشيته كانت قد تغيرت، ومع هذا بقيت اشك فيه، ولم يكن دخوله وخروجه المفاجئ والسريع الى ومن ادارة الجريدة يسمحان بايقافه والسؤال منه، المهم انه ظل معلقا في ذاكرتي.

وعند دراستي للدكتوراه (1992-1995)، عثرت على وثيقة في ملفات محافظة الموصل تتعلق بالمحروق، وكان ذلك عن طريق الصدفة، فقمت بالسؤال عنه، فقيل انه توفي قبل اشهر، وهذا نص الوثيقة:

متصرفية لواء الموصل

العدد/ق.س/3348 ســــــــــري

التاريخ/7/11/1961 ـــــــــــــــــــــــ

مديرية أمن لواء الموصل

الموضوع/ نقل معلم

كانت مديرية شرطة لواء الموصل قد اعلمتنا بكتابها المرقم (6045) في 8/10/1961 ، بان المعلم محمود عبد فتحي المحروق مدير مدرسة الحرية في الموصل يحمل نزعة شيوعية ضيقة وانه كان قد نشر في جريدة الشبيبة وبعددها الصادر برقم (24) في 28/7/1959 قصيدة بعنوان (الشمس والجلادون) مهداة الى المناضل اللبناني فرج الله الحلو. وبناءً على خطورة بقائه على الامن طلبنا من وزارة المعارف نقله الى خارج اللواء، وقد تم نقله بموجب أمر وزارة المعارف المرقم (71654) في 31/10/1961 الى مديرية معارف لواء الديوانية للاطلاع.

مطيع حسن

عـ/ متصرف لواء الموصل


لقد قضى المحروق حياته في التعليم وخدمة الثقافة العربية الى يوم رحيله في 30 ايلول 1993، فضلاً عن انه كان مناضلاً سياسياً عرف بحبه لقومه ولشعبه، وتحمل من اجل ذلك النفي والمشاق والغربة، ويبدو انه ظل وفياً لمبادئه الى ان وافته المنية، بدليل ان الذين كتبوا عنه لم يتحدثوا عن اسباب نفيه وعن حياته في المنفى وانقطاعه عن كتابة الشعر…، كما لم يشر احدهم الى قصيدة (الشمس والجلادون) التي نشرها في تموز 1959، والتي بسببها نفى الى الديوانية، وبعد مرور اكثر من سنتين على نشرها، ولا الى قصيدته الطويلة عن نضال الشعب الجزائري والتي بعنوان (النصر للجزائر) (7)، ومن غريب الصدف ان انتصار الثورة الجزائرية تزامن مع نفي المحروق من مدينته الموصل!!

لقد تراجع رئيس الوزراء عبدالكريم قاسم عن مبادئ ثورة 14تموز 1958 وعن تأييده للقوى الديمقراطية التي كانت تدعم نظام حكمه، واصبح ذلك التراجع واضحاً بعد محاولة البعثيين لاغتياله في 7 تشرين الاول 1959، وشهدت مدينة الموصل، بسبب تراجعه، حملة اغتيالات طالت الشيوعيين واعضاء الحزب الديمقراطي الكردستاني (البارتي)، واخذت عصابات (القوميين)، المدعومة من التجار والملاكين الرجعيين ومن تنظيم الاخوان المسلمين وحزب التحرير (الاسلامي)، تعيث فساداً في المدينة وفرضت عليها ارهاباً اسوداً. وفضلاً عن الدعم الداخلي لتلك (العصابات) كانت تتلقى الدعم ايضاً من دولة الجمهورية العربية المتحدة (مصر+سوريا)، وتضامناً مع نهج (عصابات القوميين)، اختطفت مباحث المكتب الثاني في سوريا القائد الشيوعي اللبناني فرج الله الحلو في شوارع دمشق، ولم تجد محاولات محاميه ميشال عقل نفعاً لمواجهته ومعرفة اسباب اعتقاله التي كانت منافية لابسط حقوق الجوار.

المهم في الامر، ان اختطاف الحلو اثار موجة من الاستنكار والشجب من جميع القوى التقدمية في العالم حينذاك، وكان للمرحوم الشاعر محمود المحروق موقف من مسألة اختطاف الحلو، وتمثل ذلك بنشره القصيدة المذكورة، في تموز 1959، ويبدو ان السلطة المحلية سجلت عليه هذا الموقف، فقامت بنفيه بعد تراجع (قاسم) عن دعمه للقوى الديمقراطية، وغض السلطات النظر عن نشاطات الاحزاب والجماعات المعادية لنظام الحكم.

المصادر والمراجع والهوامش:

(1) احمد محمد المختار (الشاعر محمود المحروق في ذمة الخلود 1929-1993) جريدة الحدباء، العدد (594) في 5/10/1993 والمختار لايتطرق الى اسباب اقامة المحروق عشرين عاماً في بغداد!!

(2) للتفاصيل ينظر: المصدر نفسه.

(3) المختار، المصدر السابق.

(4) للتفاصيل ينظر: موسوعة الموصل الحضارية، المجلد (5) (الموصل، 1992) ص 377-378

(5) كتب المختار ان المحروق انقطع عن كتابة الشعر منذ اكثر من ربع قرن، وعاد بعد ذلك لينشر ما نظمه مؤخراً من قصائد شعرية تكاد تكون من القلة بمكان، ولم يتطرق المختار الى اسباب ذلك، ينظر: جريدة الحدباء، العدد (594).

(6) للمزيد من المعلومات عن اعمال الحرس القومي المشينة ينظر الكتاب الوثائقي الذي اصدرته الحكومة العراقية سنة 1964بعنوان (المنحرفون) والذي يوضح بالوثائق والصور الاعمال اللااخلاقية التي قام بها الحرس القومي. ومن الجدير بالذكر ان رئيس الجمهورية المشير الركن عبدالسلام عارف ورئيس وزرائه العقيد احمد حسن البكر انضما الى الحرس القومي وارتديا الزي الخاص به.

(7) ينظر نصها في: جريدة الحقيقة (الموصلية)، العدد (1) 7 آيار 1959

د.محمد شادي كسكين
08-09-2010, 23:32
جماعة رواد الأدب والحياة في الموصل : فصل من تاريخ العراق الثقافي


http://www.alnoor.se/images/authors/small/others/others_9/ibrahim_alalaf.jpg (http://www.alnoor.se/author.asp?id=803)


أ .د. إبراهيم خليل العلاف
27/03/2008

ظاهرة التجمعات الأدبية في العراق ، والتي تنامت في الستينات والسبعينات في القرن الماضي ، ترجع بجذورها الى العشرينات ، فالشبان المثقفون الذي التفوا حول (صحيفة الصحيفة ) التي صدرت سنة 1924 ببغداد، يعدون من أوائل تلك التجمعات وكانوا من رواد التغيير والتجديد في الادب والفن والسياسة ، ومن بين هؤلاء برز حسين الرحال ومحمود احمد السيد ومصطفى علي . وفي الثلاثينات ظهرت ( جماعة مجلة المجلة ) التي صدر عددها الأول سنة 1938 في الموصل بجهود كل من ذو النون أيوب وعبد الحق فاضل ويوسف الحاج ألياس . وفي النجف الأشرف ظهرت ( جماعة منتدى النشر ) (1935) ، وكان من مؤسسيها الشيخ محمد رضا المظفر والسيد هادي فياض . وفي 1943 تأسست ( الرابطة الثقافية ) وكان عبد الفتاح إبراهيم ، ومحي الدين يوسف ، وخدوري خدوري ، وطه باقر من أركانها . وفي أواسط الستينات صارت التجمعات الأدبية من أبرز ملامح المشهد الثقافي العراقي المعاصر، وتؤشر الوثائق المتداولة حقيقة وجود أكثر من تجمع أدبي في العراق ولعل ( جماعة كركوك الأدبية ) التي تأسست بين عامي 1964 و 1968 من أبرزها وكان أنور الغساني، وجليل القيسي،وجان دمو، وسركون بولص، وصلاح فائق سعيد، وفاضل العزاوي ،ويوسف سعيد، ومؤيد الراوي، ويوسف الحيدري من أركانها.. كما اصدر حميد المطبعي في النجف الأشرف ( مجلة الكلمة ) التي استمرت في الصدور بين 1967 و 1975 ، وكانت بحق مسرحا لحركة أدبية طليعية .
وجماعة رواد الأدب والحياة التي نكتب عنها هي تجمع ثقافي ظهر في الموصل سنة 1954، وكانت من بواكير التجمعات الأدبية العراقية المعاصرة وقد ضم التجمع عند ظهوره أربعة أدباء مؤسسين قدر لهم فيما بعد ان يقوموا بدور فاعل في الحياة الثقافية العراقية المعاصرة وهم : محمود المحروق ، وشاذل طاقة ، وهاشم الطعان ، وغانم الدباغ . وقد عدوا من رواد الأدب العراقي الحديث ، وكانوا ذوي توجه تقدمي يساري ، بحثوا عن التغيير ولجأوا الى الشعر والقصة ليكونا الميدان الذي يعبرون من خلاله عن طموحاتهم في إيجاد أدب يرتبط بالحياة وهمومها . ومما بنبغي تسجيله في هذا الصدد ان الصحفي البارع الاستاذ عبد الباسط يونس ( 1928 - 2000 ) وكان يصدر جريدة في الموصل باسم الراية ( برز عددها الأول في 11 نيسان 1951 ) قد أفسح لهم في جريدته بابا مستقلا يحمل عنوان : ( باب رواد أدب الحياة ) ويشير الأستاذ الدكتور عمر محمد الطالب في مقالته الموسومة : (( محمود المحروق 1931 - 1993 )) التي نشرها في جريدة الحدباء ( الموصلية ) بعددها 595 الصادر في 123 تشرين الأول 1993، الى ان مجلة الرسالة الجديدة ( البغدادية )، قد وثقت نشاطات هذه الجماعة وذلك في عددها الصادر في 17 آيار سنة 1954 ويمكن الرجوع إليه للاطلاع على مزيد من التفاصيل حول هذه الجماعة الأدبية التي بعد ذلك برز اركانها في ميدان الشعر والقصة والمقالة .
ولنتساءل عن القاسم المشترك الذي ربط بين أولئك الرواد ونقول ان جميعهم من مدينة الموصل، وان الرغبة في التجديد ومحاربة الأنماط السكونية في التعبير والخروج عن المألوف المتداول في الشعر والقصة هي ما كان يجمعهم والأبعد من ذلك محاولتهم التصدي للتعقيدات الشكلية التي كانت تميز الحياة الثقافية العراقية آنذاك فضلا عن انهم كانوا في عمر متقارب تقريبا فمعظمهم من مواليد الثلاثينات من القرن الماضي ، أي ان أعمارهم عند ظهورهم كانت تتراوح بين 15 - 25 عاما . وكانوا تقدميين يساريين في آرائهم ومنطلقاتهم الفكرية، لكن ثمة أمر لابد من التأكيد عليه، وهو ان الصراعات الفكرية والسياسية بين الأحزاب والتي تفاقمت بعد ثورة 14 تموز 1958 ، أدت الى احداث التباعد بينهم ، وكما يقول الأستاذ الدكتور عبد الإله احمد في كتاب الأدب القصصي في العراق منذ الحرب العالمية الثانية ، فان معظم أولئك الرواد ذهبوا ضحية الأحداث السياسية العاصفة المتقلبة والتي أجهزت عليهم ، او حالت بينهم وبين تطور أنفسهم على نحو يتيح لهم تحقيق ما بدا انهم مؤهلون لتحقيقه .
فمحمود المحروق ( 1931 - 1993 ) هذا الرجل الذي يعد من رواد الشعر الحديث ، الذي عرف فيما بعد بـ ( الشعر الحر ) لم ينل ما يستحقه من اهتمام ، عصفت به السياسة ، فضاع في أتونها وانتهى الأمر به قبل ان يموت مصححا في جريدة الحدباء ، هذا الرجل نظم في السادس من آذار 1948 وعمره ( 17 ) سنة قصيدة ( ظلام ) ،والتي تعد أول تجربة أدبية عراقية في الشعر الحر ، وقد ظهرت منشورة في جريدة صوت الكرخ ( البغدادية ) ،( العدد 48 في 8 تشرين الثاني 1949) وجاء فيها :
مضينا .. وفي قلبنا تهاويل جياشة بالعناء
وكنا .. وكان الزمان لنا .. ملاحم ننشرها بالهناء
ونرشف من نخبها .. رحيق الهوى والحياة
وفي قلبها سكبنا الدموع .. شآبيب تدنو بنا للفناء
وتدفعنا للسبات .. فتندب احلامنا ونمضي وما من رجوع
وعندما كتب هذه القصيدة ، كانت نازك الملائكة تكتب في اللحظة ذاتها قصيدتها
( الكوليرا ) ،وكان بدر شاكر السياب يكتب كذلك قصيدته ( هل كان حبا ؟!)..لقد نظم المحروق قصيدة ظلام ونوع فيها القوافي ووزع فيها في التفعيلات توزيعا جديدا ، وان ظلت الصور واللغة والتراكيب ضمن موقفه الرومانتيكي الطاغي )) هكذا يقول ذو النون الاطرقجي في دراسته عن الشعر في الموصل ، موسوعة الموصل الحضارية ، (ج5 ، ص 378) .
ومحمود المحروق كان مدركا منذ البدء انه يفتح طريقا جديدا في الشعر وقد تحدث في 30 آذار 1993، وعبر جريدة الحدباء عن تجربته تلك قائلا بان أحد الأسباب التي يراها تقف وراء قيام حركة التجديد في الشعر وظهور الشعر الحر هي: (( الثورة على الأساليب القديمة في القصيدة العمودية ، والابتعاد عن السطحية والتقريرية والمباشرة وإدخال الألفاظ الرقيقة العذبة التي تعطي للشعر الحديث طراوة خاصة ، وجوا موسيقيا كأنه السلسبيل )).
ولا ينبغي الذهاب بعيدا في معرفة ردود الفعل على قصيدة ظلام ولكن لابد من القول انه اصدر ديوانه الأول بعنوان (( قيثارة الريح)) قبل ان يخرجوا للسياب بعد سنوات وسنوات ديوانا بالعنوان نفسه . فبين الإصدارين سبع عشرة سنة ( الموصل - 1954 .. بغداد - 1971 ) .
وقد ندب الأستاذ الدكتور عبد الوهاب العدواني نفسه للحديث عن قيمة الديوان وصاحبه فقال في مقالة كتبها في جريدة الحدباء ( 12 تشرين الاول 1993 ) أي بعد أيام من رحيل المحروق ان المحروق لم يكن شاعرا حسب ، بل كان ناقدا له باع طويل في معرفة الشعر وفهمه واستيعابه وتمثله ، ومع ان الأدباء العراقيين قد استقبلوا ديوان المحروق ، كما قال الناقد سامي أمين في عدد آب 1954 من مجلة الآداب البيروتية ، بشيء غير قليل من العنف ، وكتبوا عنه كتابات اتسع فيها المجال للإشارة الى عيوبه واغراقه في الرومانسية ،لكن ذلك لم يلغ ان المحروق قد أظهر في شعره موقفا وطنيا وانسانيا . لقد كان بحق مثقفا ملتزما بقضايا مجتمعه .
ولم يكن المحروق لوحده متميزا في موقفه هذا بل كان زملاؤه كذلك .. فشاذل طاقة وغانم الدباغ وهاشم الطعان كانوا يبغون تثوير اللغة العربية ، وهم وان تعمدوا الاغراق في الغموض والامعان في التأثر بخطى بعض أساليب الغرب الأدبية، الا انهم كانوا ذوي موهبة خلاقة ، وثقافة أصيلة ، وصدق بين ، فشاذل طاقة ( 1929-1974 ) كان شاعرا رومانتيكيا منذ بدايات نضجه الفني ، فلقد اجتمع لديه الحب والموت وقصائده في ديوانه الأول ( المساء الأخير ) الذي ظهر مطبوعا في الموصل سنة 1950 متماثلة في رسم عالم الحزن والأحلام والفراق والجنون والموت ، في مشاركة للطبيعة في هذه المشاعر)).( انظر دراسة ذو النون الاطرقجي عن الشعر في الموصل المشار اليه آنفا ).
كان شاذل طاقة ، شأنه شأن زملائه رواد الأدب والحياة ، منهمكا في الإتيان بالجديد .. فبعد اكماله الاعدادية سنة 1947 دخل عالم الصحافة حتى قبل تخرجه من دار المعلمين العالية ( كلية التربية بجامعة بغداد فيما بعد ) سنة 1950، وهو يحمل الليسانس في الأدب العربي . ولم يقف عند هذا الحد بل أسرع مع زملائه يوسف الصائغ وهاشم الطعان وعبد الحليم اللاوند سنة 1956 لاصدار مجموعة شعرية مشتركة تحت عنوان (( قصائد غير صالحة للنشر )) ففتح وزملائه بابا لتجربة جديدة في الأدب العراقي الحديث .. تجربة اتسمت بالتجديد وقد ورد في مقدمةديوانه : ( المساء الاخير ) قوله ان هذا الضرب من الشعر ( الشعر الجديد ) ليس مرسلا ولا مطلقا من جميع القيود ، ولكنه يلتزم شيئا وينطلق عن اشياء .. ولعل من حق الفن ان اذكر ان هذا الضرب ليس مبتكرا ، ولم يكن قط وليد هذا العصر وشبابه ، كما يحلو لبعضهم ان يقول ، فان جذوره ممتدة في الشعر الأندلسي ... )) .ونجد ان نازك الملائكة تذهب في مقدمة ديوانها ( شظايا ورواد ) الذي أصدرته سنة 1949 المذهب نفسه . من هنا نجد، كما يقول الأستاذ ماجد السامرائي في كتابه : ( شاذل طاقة : دراسات ومختارات ) بيروت 1976، (( ان الرعيل الأول من المجددين ، وبالذات في تجاربه الاولى )) يتقارب مذهبا ، كما يتقارب مواقف شعرية . ولعل ابرز خصائص تلك الحركة التجديدية انها تتميز بعودة الشاعر الى الارتباط بالحياة هذا فضلا عن الصياغة الجديدة للشعر، وزوال الازدواج بين الحس والفكر ، بين التعقل والشعور وأخيرا استخدام الشاعر للكثير من الأجواء والتعابير والمصطلحات الشعبية والتبسيط في استخدام الأساليب اللغوية . والملاحظ ، يقول ذو النون الاطراقجي، ان شعراء هذه المرحلة ، ومنهم شاذل طاقة، وهاشم الطعان، كانوا الصق من غيرهم بالصيغ التراثية في قصائدهم العمودية، بينما جاءت محاولاتهم في الشعر الحر في لغة بسيطة دقيقة .. وبتراكيب مكثفة او ذات نكهة شعبية قريبة من الواقع وهذا هو سر ارتباط أدبهم بالحياة وسر تسميتهم بـ ( رواد الأدب والحياة ).
ويقف هاشم الطعان ( 1931 - 1981 ) هذا الشاعر الرائد ، الذي مارس التعليم الثانوي فترة من الزمن ثم أكمل دراساته العليا ونال الدكتوراه ، ليكون علامة بارزة على صدق الفن والادب واقترابهما من الحياة .. قال عنه شاذل طاقة مرة انه (( صادق في فنه ، مخلص في تعبيره )). أصدر هاشم الطعان سنة 1955 مجموعته الشعرية الاولى بعنوان : (لحظات قلقة ) .. لكنه وبعد صدور مجموعته الشعرية الثانية ( غدا نحصد ) سنة 1960 انسحب من الشعر، كما يقول حميد المطبعي في موسوعته (اعلام العراق في القرن العشرين) .. ونستطيع هنا التأكيد على الحقيقة التي أشرنا اليها آنفا وهي ان هاشم الطعان كان واحدا من الذين اضرت الصراعات السياسية التي شهدها العراق بعد ثورة 1958 به، وكانت سببا من اسباب عزوفه عن الشعر، وتوجههه نحو العمل الاكاديمي .. واذا كانت الجامعة قد كسبت استاذا متميزا له كتب وتحقيقات يعتد بها ، الا ان الساحة الثقافية العراقية قد خسرته مبدعا .
أما غانم الدباغ ( 1923 - 1991 ) ، الركن الرابع من اركان جماعة رواد الادب والحياة ، فقد كان اكبر زملائه سنا ، كما انه لم يكن شاعرا بل قاصا رائدا .. وروائيا مبدعا استوحى أجواء قصصه من واقع حياة الموصل وقصباتها وقراها ابان عمله في سلك التعليم الابتدائي وقد وجدت بعض قصصه طريقها للنشر منذ ان كان طالبا في دار المعلمين الابتدائية التي تخرج فيها سنة 1944 . انصرف الى العمل الصحفي اواخر الخمسينات من القرن الماضي وشغل مناصب عديدة منها عضويته في هيئة تحرير مجلة الاديب المعاصر في السبعينات . كانت له مجاميع قصصية وتعد مجموعته القصصية ( الماء العذب ) التي طبعت سنة 1970 باكورتها ، وانشغل لفترة بالترجمة وظهرت له سنة 1950 مجموعة مترجمة بعنوان ( قصص من الغرب ) وقد نقل الاستاذ حميد المطبعي في موسوعته عن الاستاذ الدكتور عمر محمد الطالب تقييمه لغانم الدباغ وجاء فيه (( ان غانم الدباغ من القصصيين العراقيين الذين سبروا غور شخصياتهم وتعمقوا في تحليلها واستبطان دوافعها وغرائزها .. )) وقصصه تصور آلام مجتمعه ويستقي موضوعاته من الغرائز المكبوتة وفوران الشباب والحرمان من لذاذات الحياة ...)) .
ان بدايات جماعة رواد الأدب والحياة ، وان تبدو قلقة ، توحي بافكار ونزعات تجديدية تبتغي التغيير وعدم الركون لما هو متوارث وكلاسيكي ، فان المسألة التي لا يمكن تجاهلها هي ان لروادها فضل الاجتهاد والتجريب وانتهاج طريق غير مألوف في التعبير عن كوامن النفس العراقية التواقة الى الحرية والحق والصدق وهذا هو ما منح اعمال هذه الجماعة قيمة الوثيقة الادبية المعتمدة في التأريخ لحياة العراق الثقافية المعاصرة .


أ .د. إبراهيم خليل العلاف

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

ويومكم مبارك ورمضانكم كريم

  ويومكم مبارك ورمضانكم كريم ونعود لنتواصل مع اليوم الجديد ............الجمعة 29-3-2024 ............جمعتكم مباركة واهلا بالاحبة والصورة من د...